[تفسير قوله عز وجل: (الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون)]
قال عز وجل: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت:٦ - ٧] أي: الذين لا ينفقون لهم الويل والعذاب الأليم عند الله سبحانه تبارك وتعالى.
ولاحظ أن هذه السورة سورة مكية، وأن الزكاة هنا ذكرت قبل أن تفرد بحدودها المعروفة وبمقاليدها المقدرة، فهذه إشارة إليها فقط، وكان مطلوب منهم أن ينفقوا شيئاً من أموالهم، أما تحديد النفقة وكم يكون مقدارها، وأنها في كل حصاد، ومتى تكون، فهذا حدد قدره بعد ذلك في المدينة، فهنا إشارة مجملة، والتفصيل والتبيين كان بعد ذلك في المدينة.
يقول الله عز وجل: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت:٦ - ٧]، هذا بيان على أنهم يعذبون بالويل -وهو واد في قعر جهنم- على كفرهم وشركهم بالله، وعلى تركهم أصول الدين والإيمان والتوحيد، وعلى ترك فروع الدين أيضاً، كترك الصلاة وترك الزكاة، ولذلك حين يسألون: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:٤٢]، ما أدخلكم في قعر جهنم؟ {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:٤٣]، والصلاة والزكاة من أركان هذا الدين، قالوا: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:٤٣]، ولو صلوا هل كانت تقبل منهم هذه الصلاة؟ لا تقبل منهم الصلاة كهيئة من الهيئات إلا أن يأتوا بالتوحيد، إلا أن يقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أما لو قلدوا المسلمين ووقف الواحد منهم مع المسلم وركع مع المسلم وسجد مع المسلم، فهذا لا يقبل منهم إلا أن يأتوا بكلمة التوحيد: لا إله إلا الله، والشهادة برسالة النبي صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً قالوا: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:٤٣ - ٤٦].
فبدأ بالفروع فذكرها الله سبحانه تبارك وتعالى، ذكر أنهم لم يكونوا يفعلونها، ثم كذبوا بأصل هذا الدين، فكانوا يكذبون بيوم الدين.
قال تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت:٦ - ٧]، هم بالآخرة وبالمرجع إلى الله سبحانه تبارك وتعالى وبيوم القيامة هم كافرون، فكان الكفار يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: لا توجد آخرة، وقالوا: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:٢٤]، وقالوا: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام:٢٩]، ويقولون: فرضنا أن هناك آخرة، والذي أوجدنا في الدنيا أليس هو الله؟ فإذاً في الآخرة سيعطينا أيضاً كما أعطانا في الدنيا! فهم لا يؤمنون، وإذا جادلوا جدالاً قالوا: فرضنا أن هناك آخرة، فإن الله سيعطينا مثلما أعطانا في الدنيا.
وقالوا: فرضنا أنه لا يعطينا، فنحن أقوياء، فيوم القيامة الذي تخوفنا منه حين يأتي ويقول الله لنا: ادخلوا جهنم، سنقف ونسد باب جهنم، ولن يدخل أحد منا! فقاسوا الآخرة على الدنيا بجهلهم، وبغبائهم وبكفرهم، فهذا كلامهم عن الآخرة، وكأن المعاملة مع الآخرة هي بهذه الصورة، وأنه لا يوجد آخرة، وإذا فرضنا وجود آخرة، فإذاً الله سيعطينا في الآخرة كما أعطانا في الدنيا، وإذا فرضنا أنه لن يعطينا، فسنقف على باب جهنم وسنمنع أي أحد يدخل فيها، هذا كلام هؤلاء المشركين.
فسخروا من الآخرة، ولما هددهم الله بالزقوم في قوله: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان:٤٣ - ٤٤]، إذا بهم يسخرون، ويقولون: الزقوم هو التمر بالزبدة، فهاتوا زبدة وهاتوا تمراً وتعالوا نتزقم، يخوفنا من الزقوم، فهذا الزقوم، فنحن نأكل الزقوم! وقال عز وجل حاكياً عنهم: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:١٦]، قالوا: لن ننتظر إلى يوم القيامة، فأت بهذا العذاب الذي تخوفنا منه الآن، يسخرون ويستهزئون، ولذلك يقول الله: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف:٨٣]، وقال: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} [الطور:٤٥] أي: اتركهم يلعبون ويخوضون، فإذا جاء وعد الله علموا الحق الذي جاء من عند الله سبحانه تبارك وتعالى.
أما المؤمنون فقد آمنوا بالإيمان كله بأصوله وفروعه، آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، وعملوا لذلك، فإن الإيمان بالله يجعل العبد يعمل للآخرة، وعرفوا من ربهم سبحانه، وترى الواحد منهم عرف حق الله فوحده وتوجه إليه بالعبادة، وآمن برسل الله، وعرف فضل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الرسالة نزلت عليه، وأنه أعلم هذه الأمة، فيذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيتعلم من كتاب الله، ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
فأصول الإيمان: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:٢٨٥].
فهذه خمسة أصول من أصول الإيمان، وأيضاً ذكر الله عز وجل القضاء والقدر في مواضع كثيرة من كتابه، منها قوله سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:٤٩]، وقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب:٣٧]، وقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:٣٨]، فكل شيء يجري بتقدير الله سبحانه تبارك وتعالى، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.