[معنى قوله تعالى: (الله يجتبي من يشاء ويهدي إليه من ينيب)]
ومعنى قوله تعالى: (يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ): يصطفي ويختار من يشاء من عباده أن يكون رسولاً.
وقوله تعالى (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) ويهدي إليه أيضاً من يشاء، ولكن للهداية أسباب يأخذ بها الإنسان، أما الاختيار والاصطفاء في أمر الرسالة أو النبوة فلا أسباب لها، فلا يقول أحد: سآخذ بالأسباب لكي أكون رسولاً في يوم من الأيام، فالرسالة محض وهبة من الله عز وجل، وهي منحة من الله عز وجل فلا يوجد فيها أخذ بالأسباب.
والذين أخذوا بالأسباب لكي يكونوا رسلاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدث أن أعطاهم الله عز وجل شيئاً، بل كفروا ولم يدخلوا في دين الله سبحانه وتعالى، فالله يختار من يشاء، ويهدي من ينيب إليه، قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر:٥٤]، فيأمر الله العباد أن يأخذوا بأسباب الهدى من أجل أن ينالوا الهداية من الله، فإذا أردت أن تدخل الجنة فخذ بأسبابها وآمن أن الله يدخل جنته من يشاء، وحقق الإيمان بالقضاء والقدر، وأعظم الأسباب لدخول الجنة هي كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة).
فالأخذ بالأسباب فيما تنتج فيه الأسباب نتائجها، لكن الرسالة ليس لها أسباب حتى يقال: خذ بالأسباب لكي تكون رسولاً أو نبياً، ولذلك قطع الله هذا الأمر وقال: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ)، أما الجنة والهداية فلها أسباب، فمن أخذ بالأسباب وصل في النهاية إلى الرب سبحانه وتعالى وإلى جنته، فخذ بأسباب الهداية يهدك الله، وخذ بأسباب التقى يجعلك الله تقياً، وخذ بأسباب الجنة يدخلك الله إياها.
وقوله تعالى: (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) أي: من يرجع إلى الله ويتوب إليه سبحانه وتعالى ويستغفره فالله يغفر له ويتوب عليه، والله كريم تواب رءوف رحيم، يستحي من عبده أن يرفع إليه يديه ثم يردهما صفراً، فالله عز وجل إذا رفع العبد يديه إليه ودعاه أن يعطيه شيئاً فالله يعطيه، أو أن يهديه فالله يهديه، مع الاعتقاد أن الله هو الموفق لذلك سبحانه وتعالى، وهو المعطي والهادي سبحانه وتعالى، فله الفضل أولاً وآخراً، فيهدي من يشاء سبحانه وتعالى ويعطي فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً.
فالعبد أمامه طريقان: طريق السعادة وطريق الشقاء، والمؤمن يرى الطريقين وكذلك الكافر، وكل منهما بين الله عز وجل لهما طريق السعادة وطريق الشقاء، ولكن المؤمن زاده الله عز وجل بصيرة، فأنار له قلبه فاتبع هذا الطريق فسلكه، والكافر قلبه مظلم وممتلئ بالحقد والغل والحسد وبعدم حب الدين، فهو يرى أمامه ما ينفعه ومع ذلك يعاند ولا يريد أن يسلك هذا الطريق، فالله يهدي إليه من ينيب.
ومن ركن إلى الله عز وجل وتاب إليه تاب الله عز وجل عليه، ولذلك نرى ذلك في حكمة الله سبحانه وتعالى أن غفر لآدم ولم يغفر لإبليس، فآدم وقع في الخطيئة فراجع نفسه، واستشعر الذل والندم، فقال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:٢٣]، فوفق الله عز وجل آدم أن يقول ذلك، فتاب الله عز وجل عليه.
وإبليس استكبر وأبى أن يسجد لآدم، وقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء:٦١]، أي: أنا في مدة عمري أعبدك مع الملائكة، والآن سنسجد لهذا الذي خلقته من طين، فاستكبر، وكان إبليس يعرف ربه حق المعرفة، وعبد الله سنين كثيرة مع الملائكة، ثم أقسم بعزة الله سبحانه: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:٨٢]، فهو يعرف التوحيد ويعرف ربه سبحانه وتعالى أنه هو العزيز سبحانه فلجأ إلى ذلك، وقال: (فَبِعِزَّتِكَ) ثم قال: {أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:١٤]، لأرى هذا الذي كرمت علي، كيف أصنع به؟ فلم تنفع إبليس معرفته بالله سبحانه وتعالى، ولم تنفعه عبادته مع الملائكة زمناً طويلاً؛ لأنه استكبر والجنة لا يدخلها مستكبر، فلما استكبر على أمر الله، وتكبر على آدم واحتقره ورفض أن يسجد له، استحق عقوبة رب العالمين سبحانه وتعالى.
وأبى إبليس أن يسجد لآدم استكباراً بعبادته لله سبحانه، وحقداً وغيرة أن الله أكرمه وجعله أحسن منه وهو مخلوق من طين، وتناسى أن الله إليه الخيرة في ذلك، فيختار من يشاء، ويرفع درجات من يشاء.