للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب من قبله)]

قال الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص:٥٢].

في هذه الآية مدح الله عز وجل المؤمنين من أهل الكتاب، وذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن ربه سبحانه كيف أنه نظر إلى أهل الأرض جميعهم قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فمقتهم عربهم وعجمهم؛ لأنهم كانوا على الشرك وعلى الضلال والظلم، وكانوا بعيدين عن ربهم سبحانه وتعالى، وكانوا أهل خبث ومنكرات، فمقتهم الله سبحانه، إلا بقايا من أهل الكتاب.

قال هنا سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ} [القصص:٥٢] أي: من قبل القرآن، ومن قبل محمد صلوات الله وسلامه عليه: {هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص:٥٢]، فلم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا أعداد قليلة من اليهود لا يصلون إلى العشرة، كـ عبد الله بن سلام رضي الله عنه.

أما النصارى فكثيرون منهم آمنوا بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، فمدح الله عز وجل هؤلاء المؤمنين من أهل الكتاب الذين انتظروا النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان بعضهم سبب هداية سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، فقد كان أبوه من المجوس، وكان صاحب بيت النيران التي يعبدونها من دون الله سبحانه، وكان يحب ابنه سلمان حباً شديداً جداً، حتى إنه من شدة حبه له منعه من الناس، وجعله في مكان حبسه فيه لا يخرج إلى الناس.

وفي يوم من الأيام خرج سلمان رضي الله تعالى عنه، فإذا به يصل إلى راهب في صومعة يعبد الله سبحانه، وكان هذا الراهب من بقايا أهل الكتاب الذين عرفوا التوحيد والحق، فلما رآه سلمان أعجبه ما هو فيه من عبادة لله سبحانه وتعالى، وأنزل الله الهدى على قلبه، واتبع هذا الراهب الذي يعبد الله سبحانه، وهرب من أبيه، فلما عرف أبوه أنه وصل إلى الراهب حبسه في البيت وقيده بالأغلال، حتى لا يخرج من البيت، وإذا بالله عز وجل يشاء لـ سلمان أن يهرب من أبيه، ودله هذا الراهب على راهب آخر في مكان بعيد؛ ليذهب ويعبد الله عز وجل معه.

وانطلق سلمان يبحث عن الدين الحق، ووصل إلى هذا الراهب، وعبد الله عز وجل معه، وقد كان هذا الراهب شيخاً كبيراً في آخر حياته، وقبل وفاته سأله سلمان: من تعهد إليه بي من بعدك؟ لأنه يريد أن يعبد الله سبحانه، فدله على راهب آخر، فلما جاءت هذا الراهب الوفاة دله على آخر، ولم يزل هكذا إلى أن انتقل إلى ما يقرب من ثمانية عشر راهباً، كلما أتت الوفاة أحدهم يوصي به إلى راهب آخر، إلى أن وصل إلى آخر راهب فسأله سلمان رضي الله عنه أن يوصيه براهب آخر، فقال له: لا أعلم أحداً على هذه الأرض على ما كنا عليه -أي: من التوحيد- إلا أنه سيخرج نبي في هذا الزمان الذي نحن فيه، وأخبر سلمان عن صفات هذا النبي صلوات الله وسلامه عليه.

فسأله سلمان: أين هذا النبي؟ فقال له: في بلاد العرب، فظل سلمان يبحث عن طريقة توصله إلى بلاد العرب، وهو في بلاد فارس، وما كان قد خرج من بيته قبل ذلك، فإذا ببعض العرب يقدمون على المكان الذي هو فيه، فيعطيهم ما معه من مال رضي الله تعالى عنه؛ حتى يوصلوه إلى بلاد العرب وإلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه هؤلاء العرب، وكانوا كعادتهم في أخذ أموال الناس واستعبادهم، وعدم رعايتهم للعهود والمواثيق، فأخذوا سلمان وهو رجل حر، فإذا بهم يستعبدونه ويبيعونه لبعض اليهود، وسلمان ينتظر النبي صلوات الله وسلامه عليه، حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وإذا بـ سلمان -وهو فوق شجرة يجني لليهود شيئاً من ثمارها- يسمع يهودياً يخاطب اليهودي الآخر ويقول: إن محمداً قد جاء صلوات الله وسلامه عليه، فكاد أن يسقط من فوق الشجرة رضي الله عنه حين سمع ذلك؛ من شدة فرحه بمقدم النبي صلوات الله وسلامه عليه، فنزل وسأل هذا اليهودي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا به يلطمه على وجهه، ويقول: اذهب إلى عملك، فذهب سلمان إلى عمله، وهو عبد رقيق رضي الله عنه، وانتظر حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وذهب لينظر إليه، هل هو فعلاً النبي الذي حدثه الراهب عنه وذكر له صفاته أم هو غيره؟ فلما أراد أن يتبين أنه رسول، ويعلم أنه لا يأكل الصدقة، أخذ شيئاً من تمر وذهب إليه، وقال: هذه صدقة، فلم يأكل منها النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطاها لأصحابه، فعرف علامة من العلامات، وأتاه مرة أخرى بتمر، وقال: هذا هدية، فأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم، فعلم أنه رسول عليه الصلاة والسلام.

وكان يدور حول النبي صلى الله عليه وسلم، ويبحث عن علامة من العلامات التي حدثه عنها الرهبان، وانتبه النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، فأسقط رداءه صلى الله عليه وسلم فكشف عن كتفه عليه الصلاة والسلام، فنظر سلمان إلى تلك العلامة وهي خاتم النبوة: وهي قطعة من اللحم على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم كبيضة الحمامة، علامة على أنه نبي، وهذه هي علامات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإذا بـ سلمان يقبل النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤمن به، ومرت الأيام وأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يعينوا سلمان على أن يعتق، فأعانه المسلمون، فأعتقه الله سبحانه وتعالى وصار حراً.

هذا ممن آمنوا بالنبي صلوات الله وسلامه عليه من قبل أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قبل أن يراه؛ وذلك بسبب أخبار هؤلاء الرهبان من أهل الكتاب الذين أخبروا سلمان أن هناك نبياً يخرج في هذا الزمان.

كذلك عبد الله بن سلام رضي الله تبارك وتعالى عنه، فإنه عرف صفات النبي صلى الله عليه وسلم من التوراة، فذهب وآمن بالنبي صلوات الله وسلامه عليه.

وكذلك مجموعات من النصارى الذين كانوا في الحبشة، لما قدموا مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه من الحبشة إلى المدينة أسلموا وآمنوا بالنبي صلوات الله وسلامه عليه.

وغيرهم من أهل الكتاب ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم.

يقول عروة بن الزبير: نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص:٥٢] نزلت في النجاشي وأصحابه -وكأن الآية مدح للجميع: من أسلم قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أسلم بعد ذلك- وذلك أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه هاجر إلى الحبشة، فلما عرف النجاشي بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أسلم وصدق به، ووجه مجموعة من النصارى للنبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا اثني عشر رجلاً، فجاءوا إليه وهو في مكة، وأقاموا عنده، وسمعوا منه، وعرفوا أنه نبي حق عليه الصلاة والسلام، وكان أبو جهل لعنه الله يراقبهم، فلما قاموا من عنده اتبعهم أبو جهل وقال لهم: خيبكم الله من ركب وقبحكم من وفد، لم تلبثوا أن صدقتموه، ما رأينا ركباً أحمق ولا أجهل منكم.

فهذا أبو جهل لعنه الله، يقول لهؤلاء الذين أتوا من الحبشة وصدقوا النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام، وهو الذي بجوار النبي صلى الله عليه وسلم قد ذهب عقله، فكان غاية في الغباء لعنة الله عليه وعلى أمثاله، فلم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يكتف بأنه لم يؤمن، بل صد عن سبيل الله سبحانه من جاءوا ليؤمنوا.

فقالوا لـ أبي جهل بعد أن سمعوا منه ذلك: سلام عليكم، وليس معنى (سلام عليكم) الدعاء له، بل المقصود بها المتاركة، أي: أنت في حالك ونحن في حالنا، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، وقد اجتهدنا لأنفسنا في الرشد، فابحث أنت عن نفسك في جهلك وما أنت فيه، فأنزل الله عز وجل هذه الآية بمثل ما قال هؤلاء، قال سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ} [القصص:٥٢] أي: من قبل القرآن، أو من قبل النبي صلى الله عليه وسلم: {هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص:٥٢].

قال الله تعالى: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص:٥٣]، فآمنوا بكتابهم وبالقرآن، وبالنبي صلى الله عليه وسلم.

وذكر الله سبحانه وتعالى في سورة المائدة أن هؤلاء: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:٨٣]، فقد كانوا نصارى، وجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسمعوا ما قاله من هذا القرآن العظيم ومن كلام رب العالمين، فإذا بهم يبكون متأثرين، ويدخلون في دين رب العالمين سبحانه.

فمدح الله هؤلاء بفعالهم هذه، وقال سبحانه: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:٨٢]، فمن هؤلاء من صدقوا النبي صلوات الله وسلامه عليه لما سمعوا هذا القرآن، فقال الله عز وجل في وصفهم: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [المائدة:٨٢ - ٨٣]، أي: يبكون ويقولون لربهم سبحانه: {رَبَّنَا آمَنَّا} [المائدة:٨٣] فاجعلنا مع هؤلاء المؤمنين.

فالله سبحانه مدحهم هناك في سورة المائدة، ومدحهم هنا فقال سبحانه: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص:٥٣]، أي: كنا على الإسلام من قبل أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قبل أن ينزل القرآن، ف

<<  <  ج:
ص:  >  >>