تفسير قوله تعالى: (فأسقط علينا كسفاً وإن ربك لهو العزيز الرحيم)
يذكر الله سبحانه أنهم قالوا له: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} [الشعراء:١٨٧] أي: ظللاً من السماء، {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} [الشعراء:١٨٧] أي: ارمنا بقطع من حجارة السماء أو قطعة من السماء إذا كنت صادقاً.
قوله: (كسفاً) هذه قراءة حفص عن عاصم وحده فقط بفتح السين، وأما بقية القراء فيقرءونها بالتسكين فيها: ((فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسْفًا)).
قال تعالى: {قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الشعراء:١٨٨] أي: الله أعلم بأعمالكم، فهو يعلم ما الذي تستحقون على ذلك فانتظروا منه الجزاء، فأصروا على استكبارهم وتكذيبهم، قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:١٨٩]، ولاحظ المناسبة هنا، فقد طلبوا العذاب فقالوا: أسقط علينا كسفاً، أي: ائتنا بقطع من السماء، فأتاهم عذاب يوم الظلة، وما كانوا يحسبون أنه عذاب عليهم، فهم لما طلبوا الظلة من السماء وقالوا: أسقط علينا كسفاً من السماء إن كنت من الصادقين، فكروا أنه عندما ينزل عليهم كسف من السماء سيهربون في الجبال ويفرون من العذاب، ولكن الله سبحانه وتعالى يملي لهم، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:٣٠]، فسلط عليهم الحر الشديد سبعة أيام، فصاروا يبحثون عن شيء يستظلون به، فأرسل عليهم سحابة من السماء، فذهبوا جميعهم تحت هذه السحابة يستظلون بظلها، ويسترطبون برطوبتها، فلما اجتمعوا تحتها أرسل عليهم سبحانه صيحة ورجفة وناراً فأحرقتهم جميعهم، فجاءهم العذاب، قال في هذه السورة سبحانه وتعالى: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:١٨٩].
وأما في السور الأخرى فذكر الله عز وجل في الأعراف أنه أهلكهم برجفة، فقال سبحانه: {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [الأعراف:٩٠]، وأخافوا نبيهم وقالوا: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف:٨٨]، فلما أخافوهم جاءت الزلزلة من تحت أرجلهم تخيفهم وترعبهم، قال سبحانه: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف:٩١].
وفي سورة هود يذكر الله أنهم صاحوا على نبيهم وشتموه: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:٨٧]، وقالوا لنبيهم عليه الصلاة والسلام: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود:٩١]، فلما رفعوا أصواتهم على نبيهم جاءتهم صيحة تصمهم وتعميهم من الله عز وجل؛ جزاءً وفاقاً.
فذكر في كل سورة ما يناسب صنيعهم من عذاب من عند ربهم سبحانه وتعالى، قال الله عز وجل في سورة الأعراف: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:٩٢]، فكأنهم قالوا لشعيب ومن آمن معه: إنكم في خسران مبين، فالله عز وجل بين أنهم هم في خسران عظيم، فقال الله عز وجل فيها: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [الأعراف:٩٢] أي: كأنهم لم يقيموا بهذا البلد، وكأنهم لم يكن لهم عَدد ولا عُدد ولا قوة ولا أفراد كأنهم لم يكن لهم شيء من ذلك، {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:٩٢].
فأنجى الله نبيه عليه الصلاة والسلام فتولى عنهم وتركهم وانصرف عنهم، قال: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [الأعراف:٩٣] يعني: اذهبوا أينما ذهبتم فلن أحزن عليكم، وكيف أحزن على قوم كفروا برب العالمين سبحانه وقد قدمت النصيحة لهم؟! وفي سورة هود يختم الله عز وجل القصة بقوله: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود:٩٥] أي: سحقاً وعذاباً.
وفي سورة الحجر يقول سبحانه: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحجر:٧٨ - ٧٩]، (وإنهما) أي: أصحاب الأيكة وأصحاب حجر ثمود، (لبإمام مبين) يعني: ترونهم في طريق واضح حين تذهبون إلى الشام.
وختم هذه القصة في سورة الشعراء بقوله سبحانه الذي تكرر مراراً: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:١٩٠ - ١٩١] أي: الغالب القاهر الذي لا يقدر أحد أن يمتنع من شيء أراده سبحانه وتعالى، فهو العزيز وهو الرحيم بالمؤمنين سبحانه وتعالى.
إن هذه القصة فيها عبراً لمن يعتبر، وعلى الإنسان ألا يطمع في هذه الدنيا، وليعلم أن الرزق الحلال وإن كان قليلاً خير من أن يستكثر من الحرام فيمحق الله عز وجل الجميع، فالإنسان مهما أخذ من المال فإن الله عز وجل سيسأله عن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ فليعد للسؤال جواباً، وليحذر من الحرام؛ فإن الحرام يدعو بعضه إلى بعض، فمن أخذ قليلاً من الحرام استكثر منه، فإذا كان يطفف الكيل في جرامات فسيطفف في كيلوات، ثم يطفف في أطنان، ثم يموت ويترك هذا كله ويأتيه عذاب الله كما أتى السابقين.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.