للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به)]

قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج:٦٠] أي: ذلك الأمر الذي قصصنا عليك أن من عاقب فرد العقوبة بعقوبة مثلها، أو جازى على العقوبة بمثلها فلا حرج عليه.

ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين لقوا بعض مشركي مكة لليلتين بقيتا من شهر الله المحرم أحد الأشهر الحرم، فأراد الكفار قتال المسلمين قبل أن ينتهي شهر المحرم، وقالوا: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يكرهون القتال في الشهر الحرام، فاحملوا عليهم، والكفار كذلك كانوا لا يقاتلون في الأشهر الحرم إلا أنهم كانوا ينسئون فيها.

والأشهر الحرم ذكرها الله تعالى في قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة:٣٦] وهي: ثلاثة سرد وواحد فرد، فالفرد شهر رجب، والسرد ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، هذه اختصت بالحج فيذهب الحاج لأداء نسكه فلا يؤذى، ولا يتعرض له أحد من العرب.

أما في شهر المحرم وشهر رجب فكانوا يمتنعون من القتال تعظيماً لمن يذهب إلى العمرة فيهما.

إلا أن الكفار كانوا يتلاعبون بهذه الأشهر، فيجيء شهر المحرم فيقولون: سنؤخر الحرمة إلى صفر ونجعل له حرمة الشهر الحرام، فلما لقوا المسلمين قال بعضهم لبعض: إن المسلمين لا يقاتلون في هذا الشهر فاحملوا عليهم واقتلوهم.

فحملوا عليهم، فناشدهم المسلمون ألا يقاتلوهم في الشهر الحرام، فأبى الكفار إلا القتال فحملوا عليهم، فثبت الله عز وجل المسلمين ونصرهم على المشركين، فالباغي أبى الله إلا أن يقهره يوماً من الأيام.

قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:٦٠] فهذا وعد من الله سبحانه بالنصر للإنسان المظلوم الذي بغي عليه لينصرنه الله، وهذا جواب قسم، وأصله: والله لينصرنه الله سبحانه.

فلما انتصر المسلمون على المشركين قالوا: قتلتم في الأشهر الحرم، فأنزل الله عز وجل: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ} [الحج:٦٠] أي: جازى على العقوبة، {بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} [الحج:٦٠] بدأ المشركون فانتصر المسلمون بفضل الله عز وجل، قال: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ} [الحج:٦٠] فبغى المشركون في الفعل، وبغوا في القول، وقالوا: هؤلاء تعدوا في الأشهر الحرم، والله عز وجل وعد المؤمنين بالنصر.

ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج:٦٠] يعني: عفا عن قتالكم في الشهر الحرام؛ لأنكم مطلوبون، ولأنكم تدافعون عن أنفسكم.

وقيل: بل نزلت في قوم من المشركين مثلوا بقوم من المسلمين يوم أحد، فعاقبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هنا يعرض ربنا سبحانه وتعالى بالعفو، يعني: الله يعفو عنكم فكونوا أنتم أيضاً من العافين عمن ظلمكم.

ذكر الله تعالى في الآية الأخرى: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى:٤١ - ٤٢] ثم ذكر سبحانه: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:٤٣] والمعنى: أن المظلوم يجوز له أن ينتصر وينتصف من ظالمه، ولكن إن قدر فعفا، فهذا أفضل عند الله سبحانه وتعالى.

وقد بدأ الله بذكر الانتقام والمعاقبة، ولكن في النهاية ذكر العفو من الله سبحانه تعريضاً للمؤمنين أنه إذا قدرتم فاعفوا، قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج:٦٠] أي: عظيم العفو والتجاوز عن إساءات الخلق ومعاصيهم، وغفور يمحو ويستر سبحانه وتعالى الذنوب، فعفا عن المؤمنين في ذنوبهم وقتالهم في الشهر الحرام.

<<  <  ج:
ص:  >  >>