[تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس إن وعد الله حق)]
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:٥]، كرر النداء مرة ثانية.
{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [فاطر:٥]، وقد وعد الله سبحانه بالثواب على الإيمان والطاعة، ووعد بالعقوبة على الكفر والمعصية، ووعدكم بأنكم ترجعون إلى الله سبحانه، فوعده حق ولا يخلف الميعاد، وأمره آت حتى وإن نظرنا أنه بعيد، فلا شيء بعيد على الله سبحانه وتعالى فكل شيء قريب، ولذلك يقول: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:١]، أي: سيأتي ولكونه يقيناً فهو في حكم أنه قد أتى، فالجنة آتية والنار آتية، والجزاء آت والعقوبة آتية، والله عز وجل حسابه آت، والموت آت لا مفر منه.
{فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [فاطر:٥]، أي: لا تغتروا بهذه الدنيا فإن الدنيا تغر الإنسان وإذا تزخرفت له وتزينت له نسي نفسه، ونسي ربه سبحانه، ونسي دينه، وطمع فيها وكأنه سيعيش فيها ويخلد فيها أبداً، والإنسان نهم بطبيعته يريد المزيد، فكلما أعطي من الدنيا طلب الأكثر، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لو كان لابن آدم واد من ذهب لتمنى له ثانياً، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب).
وهذه كانت آية في كتاب الله عز وجل فنسخت تلاوتها، وبقي حكمها، وهنا يقول لنا النبي صلى الله عليه وسلم، إن ابن آدم طماع فلو أعطاه الله عز وجل وادياً من ذهب، لتمنى وادياً ثانياً، ولو أعطاه الثاني لتمنى ثالثاً، وهو لا يدري ماذا سيعمل به؛ لأنه لا يفكر كيف يصنع في هذا الشيء، فيطلب ما لا يقدر عليه، ويطلب ما لا ينتفع به، ويطلب الكثير وهو موقن أنه سيموت، وأنه سيترك الذي جمعه، ولكنه طمع الإنسان ولو طمعت فيما عند الله سبحانه لكان خيراً لك وأبقى عند الله سبحانه تبارك وتعالى.
وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (اثنان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا) فطالب العلم لا يشبع من طلب العلم، كلما ازداد علماً، ازداد علماً بجهله، ويقول الإمام الشافعي رحمه الله: كلما زدت علماً زادني ذلك علماً بجهلي، هذا يقول ذلك، وهو من هو؟! فالإنسان كلما ازداد علماً عرف أن فوقه من هو أعلم منه، وأنه تعلم من أهل العلم الذين كانوا أعلم منه بذلك، فيتواضع بطلب العلم؛ لأنه يزداد تواضعاً، فكلما فتحت له أبواب العلم فتح عليه أن يعرف قدر نفسه، وأن علام الغيوب هو الله سبحانه، قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:٧٦]، فيتواضع العبد لله سبحانه، ويزداد تواضعاً، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:٢٨].
وكذلك في أمر الدنيا، فإذا فتحت الدنيا على أحد صار نهماً جشعاً، يطلب الدنيا، ولا يستكفي بما عنده، ولا يقنع بالشيء القليل الذي كان يأخذه بل يطلب الكثير حتى يشيب ولا يزال قلبه شاباً على حب الدنيا، فيصير الإنسان شيخاً كبيراً هرماً عجوزاً، وهو يطلب الدنيا، إلا من رحم الله تبارك وتعالى، (يشيب الشيخ وقلبه شاب على حب الدنيا)، كما جاء في الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:٥].
أي: لا تغتروا بالدنيا وزخرفها وزينتها، ولا تغتروا بما يزينه لكم الشيطان من شهوات ومن شبهات، فحذرنا من الدنيا وغرور الدنيا.
فالدنيا إما أن تكون لإنسان داراً يستمتع فيها بطاعة الله كما قال بعض الحكماء: إن في الدنيا جنة، من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، وجنة الدنيا هي جنة الطاعة، وجنة حب الله سبحانه، فالإنسان المؤمن يطيع الله ويرضى عن الله، فيرضيه الله تبارك وتعالى.
{الْغَرُورُ} [فاطر:٥]، جاء في القرآن بالضم: (الغُرُور)، وجاء في القرآن بالفتح: {الْغَرُورُ} [فاطر:٥]، فالغَرور هو صاحب الغُرور، أي: الشيطان، والغُرور: الباطل والزخارف التي في الدنيا، فإذاً لا تغتروا بما يقوله لكم الشيطان ويخدعكم به، والغرور هنا هو الشيطان لعنة الله عليه.