للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (وقد كفروا به من قبل)]

قال الله سبحانه وتعالى: {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سبأ:٥٣] الآن في الآخرة يريدون الرجوع إلى الدنيا، ولكن لا رجوع إليها مرة ثانية، وهم حينها يطلبون الإيمان وقد أعذر الله لهم وأنزل عليهم القرآن وأرسل إليهم رسولاً، فلا يقبل منهم ذلك.

فقوله: ((وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ)) أي: كفروا بالله عز وجل، وكفروا بالرجوع إلى الله بالبعث والنشور.

قوله: ((وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ)) يعني: أنهم الآن صاروا في الآخرة ولا رجوع إلى الدنيا فهم يعذبون؛ لأنهم قد كفروا من قبل وهم في الدنيا، وقذفوا بالغيب، وهناك فرق بين قذف الله عز وجل كما قال: {إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} [سبأ:٤٨]، وهم يقذفون بالغيب من مكان بعيد، وهذا مثل مأخوذ من البيئة التي هم فيها ويشاهدونها، وهذا مثلما يقال: قذف بالغيب من مكان بعيد، يعني: أراد أن يرمي بحجرة، ويريد أن يصيب بها وهو بعيد جداً لا يصل إلى هذا المكان، فهؤلاء يقذفون بالغيب من مكان بعيد، فالمعنى: أنهم رموا النبي صلى الله عليه وسلم بما ليس فيه، ورموا هذا القرآن بما لا ينبغي، فقالوا عن هذا القرآن: هذا سحر من عنده، وقالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه مجنون، وكاذب وساحر وكاهن، فهذا من الرجم بالغيب، وكأنه الرمي بالظن، فهم يرجمون بالظنون وبالكلام الباطل الذي لا يفكرون فيه، فهؤلاء مثل إنسان أغمض عينيه وأخذ طوبة يريد أن يرمي بها إنساناً بعيداً عنه، فهل يصيب بها؟ لا، هذا رجم بالغيب؛ لأنه رجم وهو لا يرى الذي يريد أن يرجمه، كذلك هؤلاء، لم يتدبروا فيما جاء به النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولم يفكروا في هذا القرآن، بل ظلوا يؤلفون من رءوسهم ويقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم: ساحر وكذاب وكاهن، فيرجمون بالغيب من بعيد، فلا يريدون أن يتقربوا من النبي صلى الله عليه وسلم ليتعلموا منه وينظروا ويتأملوا فيما جاء به من القرآن العظيم.

قال الله سبحانه: ((وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ)) أي: كفروا بالقرآن وكفروا بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، وكم قد قال لهم الله سبحانه: أفلا يعقلون؟ أفلا يتدبرون القرآن؟ فيأمرهم بالتفكر ويقول لهم: تدبروا في هذا القرآن، فلم يتدبروا ولم يتفكروا، بل أعرضوا عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولم يكتفوا بذلك بل إن هؤلاء الكفار كان إذا جاء إنسان من خارج مكة استقبلوه وقالوا له: احذر من هذا الرجل أن يسحرك، فهو الذي فرق بين الرجل وابنه، وفرق بين المرء وأهله، فهذا الذي يدخل مكة يخاف أن يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويضع في أذنيه كرسفاً إذا اقترب من النبي صلى الله عليه وسلم ويغمض عينيه، فيتقرب من النبي صلى الله عليه وسلم شخص من هؤلاء ويقول: ما أتيتك حتى أخذ عليّ هؤلاء الكفار العهود وحلفوني عشر مرات ألا آتيك، ولكن أبى الله عز وجل إلا أن يفتح قلبه فيذهب للنبي صلى الله عليه وسلم ويسمع منه هذا الحق العظيم الذي جاء به، بل هم أنفسهم عرفوا أن هذا الحق هو من عند الله سبحانه وتعالى، فقد كان الكفار يتصنتون على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن عند الكعبة بالليل حين يصلي صلوات الله وسلامه عليه، وهم الوليد بن المغيرة وأبو الجهل عمرو بن هشام وعتبة بن ربيعة وغيرهم من الكفار، فكان يسمعون نغمة القرآن ورصانته وبلاغته وفصاحته، وما فيه من حكم عظيمة وأحكام جميلة، وكان كل واحد منهم يختفي من الثاني، فيقفون خلف النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن، وقبل أن يظهر النور والضوء ينصرفون فتجمعهم الطريق الثلاثة، فيسأل بعضهم بعضاً أين كنت؟ فيقول: كنت أسمع محمداً، فيتواعدون ويتحالفون ألا يأتوا إليه صلوات الله وسلامه عليه، فإذا بهم بعد أيام يرجعون، ومع ذلك لا يؤمنون به، والقرآن عجيب ومحير ومعجز، فقد أعجزهم وأتى بهم مرة ثانية لكي يستمعوا لهذا القرآن مرة ومرتين وثلاثاً، وفي الأخير يقولون: سنفتن الناس، فيتحالفون ألا يأتوا للنبي صلى الله عليه وسلم.

فقالوا للوليد بن المغيرة قل شيئاً في هذا القرآن، فقال: أسمع قليلاً منه ثم أقول ما فيه، فلما سمع القرآن قال لهم: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر، فقالوا: أنت تقول هذا الشيء، فقال الوليد: نعم أنا الذي أقول هذا الشيء، فقام أبو جهل والثاني والثالث وقالوا: لقد سحرك محمد، وبعد ذلك قام أبو جهل الملعون بحيلة، فقام بجمع أموال من قريش وذهب بها إلى الوليد وقال: خذ هذه الأموال، فقال الوليد: لقد علمت أني أغناهم، فقال أبو جهل: أنت ما ذهبت لمحمد وسمعت منه إلا لكي يعطيك أموالاً، فخذ هذه الأموال فقد أتينا بها لك، فتأخذ الوليد النعرة والعصبية ويقوم ويقول كما يقولون: إنه ساحر، فقال الله عز وجل: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا} [المدثر:١١ - ١٦] فهو بعدما سمع هذه الآيات عاند.

فهو بعدما قال: وما هو بقول البشر، قالوا له: ضحك عليك محمد وقال بأنه سيعطيك مالاً، فقال لهم: أنا سأفكر قليلاً، فذكر الله عز وجل لنا صورة هذا الإنسان وهو يفكر، وكيف أنه يريد أن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن عرف أن هذا من عند الله وما هو بقول البشر، فقال الله عز وجل يصور الصورة التي كان بها: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ} أي: لعن، لعنه الله سبحانه في تفكيره وتقدير هذا الذي يقوله، {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر:١٩] يعني: كيف أعمل عقله وفكره ليقدر أشياء مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر:٢٠ - ٢١] أي: قعد يتلفت شمالاً ويميناً، {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} [المدثر:٢٢] كهيئة الإنسان الذي أخذه التفكير العميق فيعبث في هيئته، وبعد ذلك {أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:٢٣ - ٢٦] هذا الذي يستحقه، وسقر أسفل النار والعياذ بالله في قعر جهنم {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدثر:٢٧ - ٢٩] سقر تهلك من يدخلها وتفنيه؛ فهي لا تبقي ولا تذر، ولكن الله سبحانه كتب لهم أن يخلدوا ويظلوا فيها فلا تفنيهم، وإنما تعذبهم العذاب الشديد، ثم قال: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدثر:٢٩] أي: تلوح أبشارهم وتحيلها وتذهب ألوانها الناضرة إلى ألوان سوداء فظيعة كالحة.

هذا واحد من هؤلاء الكفار فكيف بجميعهم؟!.

كان أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يقرأ القرآن ويبكي، فيسمعه المشركون وخاصة نساء المشركين كن يسمعنه وهو في داره فيتقاذفن عليه كل واحدة تريد أن تسمع أبا بكر وهو يقرأ، كان يعجبهن ذلك ولعلهن يبكين لبكاء أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فتضايق المشركون من هذا الشيء، وقالوا: ستفتن نساءنا، وتجعلهن يدخلن في هذا الدين الذي أنت فيه، فيقولون: إما أن تترك هذا الذي أنت عليه، وإما ألا تجاورنا، فـ أبو بكر الصديق رضي الله عنه فكر في الهجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يأمره أن يبقى، ثم بعد ذلك يخرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه من مكة ويترك هؤلاء، ويدخل مرة ثانية في جوار ابن الدغنة في قصة طويلة.

إذاً: فالقرآن عجيب، وإذا سمعه أي إنسان يحن إليه ويميل بأذنه، يريد أن يسمعه مرة ومرتين وثلاثاً من حبه لهذا القرآن العظيم، فالكفار استمعوا للقرآن وأعجبهم، ولكن منعهم الحسد للنبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلوا في هذا الدين العظيم، والقرآن يشد الإنسان ويجذبه إليه حين يتجرد عن الهوى، فيهديه الله سبحانه وتعالى، قال الله عز وجل في هؤلاء الكفار -الذين تمنوا يوم القيامة العودة إلى الدنيا-: ((وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ)).

<<  <  ج:
ص:  >  >>