للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)]

قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:٤٦] فالإنسان المؤمن يدافع عن دين الله سبحانه: إما بالقول، أو بالفعل.

والدفاع بالقول يكون بالجدال مع أهل الكتاب ومع غيرهم ممن يريدون أن يتعلموا هذا الدين العظيم، فإذا أرادوا أن يتعلموا فلعل أحدهم يناقش: لماذا قال كذا؟ ولماذا يفعل كذا؟ وما هو الدليل على كذا؟ فإذا كان يناقش بالحسنى فناقشه بالحسنى، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:١٢٥].

قال تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) يقول مجاهد: هي آية محكمة، يعني: ليست منسوخة، فيجوز مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن على معنى دعائهم إلى الله سبحانه وتعالى، والتنبيه على حججه وآياته رجاء إجابتهم.

والإنسان الداعي إلى الله تعالى قد يدعو أناساً مسلمين إلى المزيد من الطاعة، وقد يدعو كفاراً ليدخلوا في هذا الدين.

فالدعوة إلى الله تعالى تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، فإما أن يستجيب المدعو ويدخل في هذا الدين، وإما ألا يستجيب.

والمدعو قد يكون كافراً مشركاً، وربنا سبحانه ذكر في سورة براءة كيف يدعى هؤلاء فقال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:٦] انظر إلى هذا الكلام العظيم من رب العالمين: لو أن أحداً من الكفار من أعدائك قال لك: أريد أن أسمع هذا القرآن، وأريد أن أعرف ماذا تقولون، وهو كافر حربي ليس بينك وبينه أمان، فتقول له: اسمع هذا القرآن واسمع هذا الدين العظيم، وتدعوه إلى دين الله عز وجل، وهذا قد يستجيب وقد لا يستجيب، فالذي عليك أن تدعو فقط أما أن يستجيب فهذا أمر الله سبحانه.

فإذا أتى إليك وسمع منك وقال لك: سأفكر، ولم يدخل في هذا الدين، فما تعمل مع هذا الإنسان؟ قال: (ثم أبلغه مأمنه) أي: أرجعه إلى مكانه مرة أخرى آمناً حتى لو كان عدوك، ومحارباً لك، بمعنى: أنه لو أتى إليك لقتال جاز قتله، لكن في حال الدعوة إلى الله وعندما يطلب أن يسمع كلام الله فليس شرطاً إذا سمع أن يدخل في الإسلام وإلا قتل.

فهذا العدو الذي جاء من الكفار إليكم ليستمع إلى هذا القرآن أسمعوه القرآن، وعلموه كلام رب العالمين سبحانه، فإذا استجاب فالحمد لله، وإذا لم يستجب فاصبروا عليه واتركوه يرجع إلى مأمنه مرة ثانية، وبعدما يرجع إلى مأمنه رجع الأمر إلى أنه كافر حربي وأنتم مسلمون، والحرب دائرة بين الإسلام والكفر.

فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمتثل كلام رب العالمين سبحانه، ويدعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة.

قال سبحانه: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ} [العنكبوت:٤٦] والأصل أن المسلم لا يجادل إلا دفاعاً عن هذا الدين، فإذا كان بعض المنافقين يتكلم فيجادل ويرد على هذا الإنسان؛ لأنه يستحق ذلك حتى لا يفتن أحداً من المسلمين.

وكذلك أهل الكتاب لا تدخل معهم في جدال إلا إذا بدءوا بذلك وأحبوا أن يتعرفوا على هذا الدين فيرد عليهم بذلك، ولابد أن يكون معك أساليب الجدال، فليس أي إنسان يصلح للجدال مع هؤلاء، إنما ذلك لأهل العلم.

فقد يجادل في التفسير فيكون العالم بالتفسير هو الذي يتصدى له ويرد عليه، وقد يجادل في الفقه فيكون العالم الفقيه هو الذي يتصدى له ويرد عليه، وقد يجادل في غير ذلك.

إذاً: أهل العلم هم الذين يتصدرون لهؤلاء فيجادلوهم بالتي هي أحسن.

ولكن قد يتطاول هذا الكتابي أو الكافر على المسلمين، ويخرج عن الجدال والمناقشة إلى سوء الأدب وإلى الشتم والتحدي، وإلى أن يقذف هذا الدين، أو النبي صلى الله عليه وسلم، ففي هذه الحالة يكون ظالماً فيستحق أن يرد عليه بالجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى.

ولذلك قال بعض المفسرين: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:٢٩]، وقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة:٣٦] أي: قاتلوا الذين كفروا من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فإذا كان فيهم الصغار فلا يقاتلون، لكن إذا وصل الأمر إلى التحدي وإلى الاعتداء على هذا الدين، وخرجوا عن الجدل بالحسنى إلى الجدل بالفحش؛ فهنا يستحقون الجهاد والدفع والرد عليهم؛ فلذلك قال الله سبحانه: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ} [العنكبوت:٤٦]، إذاً: الأصل عدم الجدال، {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:٤٦] أي: إذا احتجت للرد فرد بالتي هي أحسن مع من يحسن من هؤلاء ويريد أن يتعرف على هذا الدين.

لكن الذين ظلموا منهم، والذين يسبون ويطعنون في كلام رب العالمين وفي النبي صلى الله عليه وسلم فلا يصلح معهم الجدال بالحسنى، قال: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:٤٦] أي: فيستحقون أن يجاهدوا في سبيل الله سبحانه.

قال تعالى: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت:٤٦] يعني: قولوا لهؤلاء الذين يجادلون ليتعرفوا ثم يدخلوا في هذا الدين: إن الذي أنزل الكتاب على موسى عليه السلام، وعلى عيسى عليه السلام، والذي أنزل الكتاب على محمد صلوات وسلامه عليه هو إله واحد، وهو الذي نتوجه إليه بالعبادة وحده لا شريك له.

وقوله: (وإلهنا وإلهكم واحد) أي: الإله المعبود الذي نزل التوراة، ونزل الإنجيل، ونزل القرآن إله واحد لا شريك له لا نعبد إلا إياه سبحانه وتعالى.

إذاً: هم لا ينكرون الربوبية ولكن يشركون في ألوهية الله سبحانه، فالرب عندهم الذي خلق ورزق وأعطى وأحيا وأمات هو الله سبحانه، ولكن في العبادة يعبدون الله وغير الله، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّه} [التوبة:٣٠] فعبدوا وأشركوا بالله سبحانه، فقولوا لهم: الإله واحد لا شريك سبحانه وتعالى فاعبدوا هذا الإله الواحد.

وقولوا: آمنا بما أنزل على الأنبياء جميعهم، وبما أنزل علينا؛ فآمنوا بذلك وانظروا في التوراة تجدون التبشير بالنبي صلى الله عليه وسلم فيها، وانظروا في الإنجيل تجدون البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فآمنوا بهذا القرآن العظيم، قال الله سبحانه: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [العنكبوت:٤٦] أي: آمنا بالقرآن وبالتوراة وبالإنجيل، قال: {وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} [العنكبوت:٤٦] أي: المعبود الذي نعبده ولا نشرك به هو واحد لا شريك له، ولا صاحبة ولا ولد ولا والد.

قال تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون} [العنكبوت:٤٦] أي: مذعنون وطائعون ومستسلمون ومنقادون لشرعه سبحانه وتعالى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>