للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (وربك يخلق ما يشاء ويختار)]

قال سبحانه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:٦٨].

يرد الله على هؤلاء المشركين وفيهم الكبار والصغار، فصغار المشركين ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه على أنهم ليسوا أفضل من الذين معهم، وكبار المشركين ينظرون إليه حسداً لماذا جاءت إليه هذه الرسالة، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:٣١] فكانوا يتمنون لو نزل هذا القرآن عليهم، وهذا منهم حسد للنبي صلى الله عليه وسلم.

وعظيم مكة عند المشركين هو الوليد بن المغيرة، وكان من أعلمهم في الكلام والفصاحة واللغة العربية المتينة والشعر والخطابة، وكان من أغناهم، ولذلك ربنا سبحانه وتعالى ذكر هذا الرجل فقال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا} [المدثر:١١ - ١٦].

فقوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر:١١] فيها معنيان: المعنى الأول متفرداً في الناس بهذا الذي عنده من غنى مال ومن أولاد وقوة، ومن رئاسة في قومه، وكان المفترض عليه أن يعرف الحق فيتبعه، وخاصة أنه هو الذي قال عن هذا القرآن العظيم: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر، والذي منعه من الإيمان بالله ورسوله هو كبره وحسده وقول بعض الكفار له: قل في هذا القرآن شيئاً لعل الناس يتبعونك، ولما أصروا عليه بدأ يفكر، قال تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ} [المدثر:١٨ - ١٩] أي: لعنة الله عليه، {كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} [المدثر:١٨ - ٢٣] وفي النهاية قال لهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:٢٤] فالله عز وجل ذكر ما قاله هذا الرجل عن هذا القرآن بأنه سحر، وهو يعلم في نفسه أن هذا مستحيل أن يكون سحراً.

والمعنى الثاني: ذرني وإياه وحده، فسيأتي إلينا يوم القيامة لوحده وليس معه لا مال ولا بنون ولا شيء.

فالمراد بالرجل العظيم في القريتين هو عظيم قريش الوليد بن المغيرة، أو عظيم الطائف عروة بن مسعود الثقفي، فكان يقول الكفار: لماذا لم ينزل القرآن على أحدهما وأنزل على النبي صلى الله عليه وسلم؟! فالصغار نظروا إلى هؤلاء الكبار أنهم الأحق في نزول القرآن عليهم، والكبار نظروا بحسد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك يذكر عنهم الله عز وجل: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:٥٤] أي: يحسدون النبي صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله سبحانه وتعالى من فضله.

وصغار المشركين يخاصمون كبراءهم فإذا كان يوم القيامة: {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ} [سبأ:٣١ - ٣٢] أي: أنتم الذين كنتم مجرمين في الدنيا.

ففي الدنيا قد كان يدافع بعضهم عن بعض ويفدي بعضهم بعضاً بنفسه وروحه.

ويوم القيامة يبرأ بعضهم من بعض، فالكبار يخاصمون الصغار، والصغار يتهمون الكبار أنهم السبب في ذلك، ويرد عليهم الكبار أنهم كانوا مجرمين وكانوا في بعد عن الله سبحانه وتعالى.

قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [سبأ:٣٣] أي: نظروا العذاب أمامهم فأسروا في أنفسهم الندامة، وأظهروا الحسرة والبكاء حين لا ينفعهم بكاء ولا حسرة، فكان الشقاء الأبدي على هؤلاء.

قال الله عز وجل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ويختار} [القصص:٦٨] تفرد الله بالخلق سبحانه، وهو يأمر بما يشاء، فهو المتفرد بالأمر وبالشرع قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:٥٤] وهو وحده الذي يخلق ويأمر.

إذاً: الشرع لا يكون إلا من عنده سبحانه وتعالى وهو الذي خلق العباد، وهو الذي يعرف ما الذي ينفعهم وما الذي يضرهم، لذلك شرع لهم الشريعة العظيمة التي نزلها في كتابه وفي سنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه.

إذاً: ربك يخلق ما يشاء من خلقه، ويختار من هؤلاء الخلق من يصطفيه، فاختار محمداً على هؤلاء جميعهم، ففضله صلوات الله وسلامه عليه، والكفار كانوا يريدون أن ينزل القرآن على رجل من القريتين، ولكن الله اختار النبي صلى الله عليه وسلم، أن يكون رسولاً، وهذا وهب من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم.

ولا حاجة لأن يظل الإنسان يتعبد إلى أن ينزل عليه الوحي فيكتسب ذلك بعبادة الله، فهذا اختيار من الله سبحانه تبارك وتعالى، وتوفيق من الله لمن يريده، فيقطع عن الناس التمني فلا يتمنى الإنسان أن يكون رسولاً أو نبياً، إنما هذا وهب من الله لمن يشاء، فالله يخلق ما يشاء ويختار من يريد سبحانه.

وقوله تعالى: {مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:٦٨] أي: ليس الاختيار للخلق، ولا لهؤلاء الذين يريدون أن ينزل القرآن على الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود.

فـ (ما) هنا نافية على قول جمهور المفسرين، ومعنى الآية: ليس لهم من الأمر شيء كما قال الله سبحانه تبارك وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:١٢٨] وكما قال الله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:٣٦].

إنما الاختيار إلى الله عز وجل، لذلك علمنا النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الاستخارة حين نقدم على عمل من الأعمال، فهو الذي يختار لنا الخير سبحانه وتعالى.

نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>