[تفسير قوله تعالى: (حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم)]
قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت:٢٠] هم في الموقف العظيم يحشرون ويجمعون وبعد ذلك يقادون إلى النار، وحين كانوا في المحشر بين يدي الله عز وجل ورأوا النار {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور:١٤]، فيسألهم الله ماذا عملتم في الدنيا وسواء عليهم كذبوا على الله أو اعترفوا، وسواء عليهم صبروا أو لم يصبروا فهم في النار والعياذ بالله.
وقوله: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا} [فصلت:٢٠] أي: جاءوا الموقف وحشروا وجمعوا ورأوا النار أمامهم قال: {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت:٢٠]، شهد سمع الإنسان عليه، وبصره، وشهد الله سبحانه وتعالى، فالله الذي أقدر خلقه على أن يتكلموا بألسنتهم قادر على أن ينطق فيهم أسماعهم وأبصارهم بما كانوا يفعلون في الدنيا.
روى الإمام مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك -صلوات الله وسلامه عليه- فقال: هل تدرون مما أضحك؟ قلنا: الله ورسول أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه) يعني: يوم القيامة، يعني: يظن المنافق أنه يستطيع أن يكذب على الله وينجو بهذا الكذب، فأضحك الله النبي صلى الله عليه وسلم على هؤلاء المجرمين، وكيف أنه يستدرجهم سبحانه وتعالى بحلمه وبكرمه، فإنهم لما ظنوا أنهم سيخدعون الله إذا بالله سبحانه يخدعهم فتشهد عليهم أعضاؤهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول يا رب! ألم تجرني من الظلم؟ فيقول الله عز وجل: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني)، لم يعترف أمام الله سبحانه، وظن أنه سيخدع ربه سبحانه، ووصل إلى أقصى درجات الغباء في مخاطبته لربه سبحانه وتعالى، قال: (يقول الله عز وجل: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:١٤] وبالكرام الكاتبين شهودا)، فإن الله أكرمهم ونزههم أن يكذبوا أو يفتروا على أحد شيئاً، كما كرمهم بعلو منزلتهم عنده سبحانه، (فيختم على فيه، فلا يقدر على الكلام بلسانه، ويأمر الله عز وجل أركانه فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، فتشهد عليه يده ورجله وفخذه، بما كان يصنع في الدنيا، قال: فإذا خلي بينه وبين الكلام دعا على نفسه بالسحق وبالبعد وبالعذاب، يقول: بعداً لكن وسحقاً عنكن كنت أناضل) يعني: أنتن تستاهلن أشد العذاب.
في حديث آخر في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد سألوه: (هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل تضارون في الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب؟) كأنهم يقولون: سيكون العدد ضخماً جداً وكبيراً وسيزدحم بعضنا مع بعض، فكيف سنرى ربنا يوم القيامة؟ وهذه عقيدة المؤمن أنه يرى الله عز وجل يوم القيامة في الجنة، وأنهم في الموقف العظيم يسألهم الله عز وجل فيسمعون ما يقول، ويردون ويجيبون على ربهم، نسأل الله العفو والعافية، في الدين والدنيا والآخرة.
فضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً ولله المثل الأعلى سبحانه وتعالى، فحين ترون الشمس هل تزدحمون أو كل واحد ينظر إليها من مكانه فيراها؟ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لا نزدحم، فقال: (هل تضارون؟) أي: هل يضر بعضكم بعضاً (في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا، قال: فوالذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما).
فلا أحد يضر أحداً عندما ينظرون إلى الشمس، فكلهم ينظر إليها من مكانه ويراها، ولله عز وجل المثل الأعلى، فالمؤمنون يرون ربهم يوم القيامة، لا يضر بعضهم بعضاً في النظر إليه سبحانه.
قال: (فيلقى العبد فيقول: أي فل)، هذا ترخيم، وهو حذف الحرف الأخير وأصلها يا فلان، (أي فل! ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع)، ألم أكرمك {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:٧٠]، (وأسودك) أي: أجعلك سيداً ولم أجعلك عبداً من العبيد بل جعلتك سيداً حراً (وأزوجك)، أي: أعنتك على أن تزوجت (وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع) أي: تركتك تكون رئيساً في قومك وكبيراً، وتربع أي: لك رباع ودور وحقول وبساتين، وغيرها في الدنيا، (فيقول العبد: بلى، قال: أفظننت أنك ملاقي؟) أي: هل اعتقدت أن هناك بعثاً ونشوراً وجنة ونار يوم القيامة؟ قال: فيقول: لا، أخذت هذا كله ونسيتك يا رب ولا حول ولا قوة إلا بالله، فيقول الله عز وجل: (فإني أنساك كما نسيتني)، فكما نسيت ربك سننساك في النار أي: نتركك مهملاً، لا ننظر إليك والعياذ بالله، فنعاملك معاملة المنسي، ولا ينسى ربك أحداً، ولكن هذا من المشاكلة والمجانسة اللفظية، ومعنى: ننساك أي: نتركك كما يترك المنسي، أما أن الله يغفل عن شيء من عباده فحاشاه سبحانه وتعالى.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم يلقى الثاني فيقول: أي فل! ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى أي رب، فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول له: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثالث: فيقول له مثل ذلك، فيجيب هذا العبد، فيقول: يا رب! آمنت بك وبكتابك وبرسلك، وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع، فيقول الله عز وجل: ههنا) أي: قف مكانك، ثم يقال له: (الآن نبعث شاهدنا عليك)، فيتفكر العبد في نفسه، من سيشهد علي، فيختم على فيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي، فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق، فهو كذب في الدنيا ويريد أن يكذب على الله يوم القيامة، خدع في الدنيا ويريد أن يخدع يوم القيامة فخدعه الله كما خدع الناس في الدنيا، وجعل أعضاءه تشهد عليه، قال: وذلك الذي يسخط الله عليه، والمنافق في الدرك الأسفل من النار، أي: في قعر جهنم، والعياذ بالله، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:١٤٢]، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:١٤٥].