[تفسير قوله تعالى: (يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم)]
قال الله تعالى: {يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:٥٢].
قوله: ((يَوْمَ لا ينفع)) قرأها نافع: (يوم لا تنفع) وقراءة الكوفيين عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف وباقي القراء يقرءونها: ((يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ)) أي: يوم القيامة يعتذر الظالم والمنافق، ويحلف المنافق لله سبحانه وتعالى أنه ما كذب وما أعرض، وأن هذا المكتوب عليه في الكتاب لم يعمله، ولا يقبل إلا شاهداً إلا من نفسه، فيختم الله عز وجل على فيه فتنطق جوارحه فتكذبه فيدعو عليها، فهذا نصر للمؤمنين يوم القيامة: أن المنافق يشهد على نفسه، وأن الفاجر يشهد على نفسه، وأن الكافر يدخله الله عز وجل النار، ويعذب الذين كذبوا وأعرضوا، فالظالمون يعتذرون لله سبحانه فلا تنفع المعذرة.
قوله: ((وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ)) أي: الطرد من رحمة الله سبحانه وتعالى، {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:٥٢] أي: يستغيثون فلا يغاثون، ويستنصرون فلا ينصرون، يقول المنافقون للذين آمنوا: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:١٣] أي: أعطونا نوراً قليلاً، لقد كنا معكم في الدنيا وكنا نصلي معكم فأعطونا شيئاً من نوركم، {قِيْلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} [الحديد:١٣ - ١٤] أي: حتى جاء نصر الله، {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:١٤]، هؤلاء الكفار.
روى الإمام الترمذي حديثاً بإسناد فيه ضعف يسير وهو قريب من الحسن؛ لأن فيه شهر بن حوشب وهو صدوق، فهو كثير الإرسال، وقد روى عن أم الدرداء عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يلقى على أهل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من العذاب) أي: يلقى عليهم الجوع فيعادل الجوع ما هم فيه من العذاب، (فيستغيثون فيغاثون بطعام مِنْ ضَرِيعٍ) والضريع: نبت من شوك طعمه قذر منتن مر تستقذره الإبل فلا تأكله، فإذا أكلته الأنعام ماتت، فتجتنبه الأنعام ولا تأكله، فهؤلاء يغاثون بمثله والعياذ بالله! قال: (فيغاثون بطعام ذي غصة، فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب، فيرفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد) والحميم: هو السائل الذي بلغ النهاية في الحرارة والعياذ بالله! ثم يقول: (فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم، فإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم، فيقولون: ادعوا خزنة جهنم، فتقول لهم الخزنة: {أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:٥٠]، فيقولون: ادعوا مالكاً، فيقولون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:٧٧]، فيجيبهم مالك: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:٧٧])، أي: لا نهاية لعذابكم بل سوف تعذبون أبد الآبدين، قال الأعمش أحد رواة هذا الحديث: (نبئت أن بين دعائهم، وبين إجابة مالك إياهم ألف عام) أي: ينادون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:٧٧] فلا يرد عليهم مدة ألف عام ثم يجيبهم، فلما انتظروا تلك المدة ظنوا أنه يجيب بشيء ينفعهم، ولكن {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:٧٧]، فبعد أن عذبوا بالنار وبالجوع وبالطعام والشراب من الحميم وبطول الانتظار يأتي هذا الرد: ((إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ)) قال: (فيقولون: ادعوا ربكم فلا أحد خير من ربكم، فيقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:١٠٦ - ١٠٧]) يحتجون بالقضاء والقدر، أي: غلب علينا قدرنا فكنا أشقياء، فسامحنا في هذه المرة وأَخْرِجْنَا مِنْهَا وأرجعنا إلى الدنيا مرة ثانية، فإن عدنا إلى الظلم وإلى الكفر فافعل بنا ما تشاء.
قال: (فيجيبهم ربهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:١٠٨]) (اخسأ) كلمة تقال للكلب حين يزجر ويطرد من مكانه.
كذلك يقول الرب سبحانه لأهل النار والعياذ بالله: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:١٠٨ - ١١٠]).
أي: تذكروا في الدنيا حين كنتم تضحكون من المؤمنين وتسخرون منهم وتستهزئون بهم.
ثم قال تعالى عن المؤمنين: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:١١١]) أي: الفوز اليوم والفلاح والنصر للمؤمنين، فالمؤمن يفرح بنصر الله سبحانه وتعالى، فهو يفرح أن ربه انتقم له من عدوه، فينظرون إلى أهل الجنة وقد نجاهم الله سبحانه وتعالى من العذاب وجعلهم في الجنة: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} [يس:٥٥] أي: في شغل عن هؤلاء لا يلتفتون إلى أهل النار؛ لما هم فيه من متعة عظيمة جميلة في جنة الخلد.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.
يقول في آخر الحديث: (فعند ذلك يئسوا من كل خير، وعند ذلك يأخذون في الزفير والحسرة والويل).
وهذا انتقام الله عز وجل من الكفار والظلمة والمجرمين، فهو سبحانه ينتقم منهم أعظم الانتقام يوم القيامة في نار جهنم، أما في الدنيا فقد ينصر المؤمنين ويمكن لهم، وقد يأتي الأمر على خلاف ما يشتهون؛ لأن الأمر أحياناً يكون عليهم، ولكن دين الله عز وجل لا يزال عالياً، وأحياناً ينتصرون.
فنقول: إذا صار المسلمون في وقت من الأوقات بعيدين عن دين ربهم فإن مصيرهم إلى ذلة وهوان، وبهذا يعلم أن النصر لا بد له من تضحيات، ولا يعلو دين الله سبحانه وتعالى إلا بالقتال في سبيل الله، وبالحجج والبراهين من كتاب الله وسنة سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه.
نسأل الله أن ينصر دين الإسلام، وأن يمكن للإسلام والمسلمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.