هذا هو الخالق الذي خلق ذلك، وحين يقول لنا ويخبرنا عن جنة الخلود أنها عظيمة جنة عرضها السماوات والأرض، وإذا قلنا: إن عندنا أرضاً، والأرض طولها كذا وعرضها كذا، والعادة أن الطول أكبر من العرض، فنعبر بالطول أنه أكبر من العرض، فإذا عبر بالعرض وقال: عرضها السماوات والأرض فكم يكون طولها؟ وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن آخر من يخرج من النار ويدخل الجنة، وعن آخر واحد من العصاة الموحدين، مكث دهراً في النار والعياذ بالله، وخلد في النار ما شاء الله عز وجل، ولا يستطيع أن يعرف كم خلد فيها، قال تعالى:{وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}[الحج:٤٧] فإذا قلنا: الخلود بنظرتنا في الدنيا مليون سنة أو مائة مليون سنة، فإذا كان هذا بأيامنا فكيف يكون الخلود عند الله عز وجل في أيام يوم القيامة؟ فهؤلاء دخلوا النار فمكثوا فيها، ثم جاء العفو من الله عز وجل عن هؤلاء، فآخر واحد من العصاة الموحدين يخرج من النار ليدخل الجنة، ويمشي على الصراط، يمشي مرة ويكبو مرة وتلفحه النار مرة، ويزحف مرة حتى يخرج من فوق الصراط، وإذا خرج قال: الحمد لله الذي نجاني من هذا، لقد أعطاني الله ما لم يعط أحداً من العالمين، يقول ذلك لأنه قد دخل الجنة بعد أن كان لا يعرف إلا السجن الذي كان فيه في النار والعذاب الأليم المقيم، فهذا خرج من النار، ولكن بقي فيها الكفار ولم يخرجوا، فلما نظر إلى هؤلاء الكفار حمد الله أنه هو الذي نجا، وإن كان مكث فيها ما شاء الله عز وجل، ولكن خرج في يوم من الأيام، وقال: الحمد لله الذي أعطاني ما لم يعط أحداً من العالمين.
فإذا بالرب سبحانه وتعالى يري هذا الإنسان شجرة أمامه بعدما تعدى النار وتجاوزها، فنظر إليها وأعجبته، والله يعلم ذلك سبحانه وتعالى، ووجد تحتها ماءً فإذا به يصبر ويصبر، وفي الأخير لم يصبر فقال: يا رب! أدنني من هذه الشجرة، فآكل من ثمرها وأشرب من مائها، فقد كانت أمنيته الخروج من النار، والآن يريد الشجرة هذه، فإذا به يدنو منها ويشرب من الماء الذي نبتت منه ويأكل من ثمرها، فيقول له ربه: لعلي إن أعطيتك ذلك أن تطلب غيرها، فيقول: لا يا رب لا أطلب غيرها، ويعطي ربه العهود والمواثيق ألا يسأل غيرها، فيقربه الله عز وجل ويدنيه من هذه الشجرة التي يريد، فدنا منها ومكث زمناً، وإذا بالله يريه شجرة أخرى هي أحسن من الأولى، والله حكيم سبحانه وتعالى وهو كريم ويريد له الخير.
فلما أراه تلك الشجرة وهي أعظم من الأولى إذا به يصبر ويصبر ويصبر، وفي النهاية لا يطيق، فقال: يا رب! أدنني من هذه ولا أسألك غيرها، قال: ما أغدرك يا ابن آدم! ألم تعطني العهود والمواثيق ألا تسأل غيرها؟ قال: يا رب! لا أسألك غيرها، أدنني منها، فيدنيه منها، ويتكرر الأمر ويريه ما هو خير من ذلك ويطلب الخير حتى يدنيه الله، حتى يرى باب الجنة، فيصبر ما شاء الله أن يصبر وفي النهاية لا يطيق، فيقول: يا رب! أدخلني الجنة، يقول: ما أغدرك يا ابن آدم! ألم تعطني العهود والمواثيق ألا تسأل غيرها؟ فإذا بالله عز وجل يدخله جنته سبحانه وتعالى.
وإذا دخل العبد الجنة رآها مليئة فلا يلقى لنفسه مكاناً، ويجد فيها كل الناس قد أخذوا أماكنهم، وهو في تخيله ليس له مكان فيها، فيسأل ربه: يا رب! أعطني من الجنة، فيقول الله: تمن، فيتمنى ويتمنى ما يشاء، ويذكره الله عز وجل ويتمنى أقصى ما وصل إليه مما يتمناه، فيقول له ربه سبحانه: ألا تحب أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيفرح العبد ويقول: نعم يا رب! فيقول: فلك مثلها ومثلها ومثلها ومثلها وعشرة أمثالها، أي: عشرة أمثال ملك ملك من ملوك الدنيا.
هذا لواحد فقط ممن دخلوا الجنة، فيا ترى كم أعداد أهل الجنة؟ وكم يدخل الجنة من عباد الله سبحانه وتعالى؟ نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها، فإن باب الجنة يأتي عليه يوم وهو كظيظ من الزحام؛ لكثرة الداخلين إليها، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.
إن ما ذكره الله عز وجل لك في هذه الدنيا لم تحط به علماً، فقد وزع الكواكب والنجوم والأقمار والشموس في السماء، وهي أكثر من الناس، فإذا كانت هذه الكواكب أنت لم تقدر على عدها، ولا علماء الفلك بما لديهم من آلات ما قدروا على عدها، فقد قالوا: عدد المجرات في السماء مائتا مليار مجرة، قالوا: هذا الذي تمكنا من عده ومعرفته، وما فوق ذلك كثير لا نعرف عنه شيئاً، فالمجرة الواحدة فيها أكثر من مائتي مليار من الشموس والأقمار والنجوم، والنجم الواحد أضعاف الأرض مليون مرة، هذا نجم واحد، فهل يعجز الله عز وجل أن يعطي لأهل الجنة في الجنة لكل منهم ما شاء مثل كوكب الأرض وأعظم منه بكثير ليكون ملكاً من ملوك الجنة؟ فإن الله على كل شيء قدير، ويملك كل شيء سبحانه، فقد وعد عباده الصالحين بالجنة، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهذه النجوم والأقمار قد رأتها العين، فالله عز وجل وعد المؤمنين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
فقوله تعالى:{فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[الشورى:٣٦] أي: قليل زائل، وما عند الله في جنة الخلود هو الذي يبقى، وهذه الجنة الباقية جعلها الله لمن كانت فيه صفات استحق بها أن يكون من أهل الجنة، وأول هذه الصفات: الإيمان، أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، وأن توالي في الله وأن تعادي في الله، وأن تحب في الله وأن تبغض في الله، فإن حققت أصول الإيمان فأنت من المؤمنين الذين يعملون الصالحات.