[تقديم زيد البقاء عند النبي صلى الله عليه وسلم على اللحوق بأبيه]
وقد ذكر أن أهل زيد بن حارثة كانوا يبحثون عنه ليلاً ونهاراً، فجاء أبوه وعمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن عرفوا أنه عند النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ندفع لك ما تريد وتترك لنا ابننا، فترك النبي صلى الله عليه وسلم لـ زيد الاختيار وقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:(خيروه! فإن اختاركما فهو لكما دون فداء) أي: لو اختار أن يكون مع أبيه ومع عمه فهو لهما من غير ثمن، فاختار الرق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضل أن يكون عبداً عند النبي صلى الله عليه وسلم على أن يرجع إلى أبيه وعمه.
والحقيقة أن زيداً رفض الرجوع إلى أبيه وعمه لا لأنهم كانوا قساة عليه، فلم يحرموه من حاجة طلبها، وإنما كان زيد مخطوفاً من أبيه ومن أمه وهو ما زال صغيراً رضي الله تبارك وتعالى، ولكن من يعاشر النبي صلى الله عليه وسلم يستحيل أن يقبل أن يكون عند غيره بل سيفضل أن يكون عبداً عند النبي صلى الله عليه وسلم على أن يكون حراً وملكاً في مكان آخر.
فـ زيد قد أحس بقربه من النبي صلى الله عليه وسلم، وأنس برحمة النبي صلى الله عليه وسلم وشفقته ورأفته، وعلم أن هذا النبي لا يضاهيه أحد مكانة أو شرفاً ولذلك اختار زيد النبي صلى الله عليه وسلم على أبيه وعلى عمه، وبعد أن اختار زيد النبي صلى الله عليه وسلم أخذه وخرج إلى قومه من قريش وقال:(يا معشر قريش! اشهدوا أنه ابني يرثني وأرثه).
فتبناه النبي صلى الله عليه وسلم على العادة التي كانت جارية في العرب قبل أن يحرم الله عز وجل التبني، فانصرف أبوه وقومه بعد ذلك تاركين زيداً عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد طول بحث وشوق جسده أبوه شعراً يقطع قلب من يسمعه، من شدة حبه لابنه، ومن شدة حزنه على فراقه، حيث يقول: بكيت على زيد ولم أدر ما فعل أحي فيرجى أم أتى دونه الأجل فو الله لا أدري وإني لسائر أغالك بعدي السهل أم غالك الجبل فيا ليت شعري هل لك الدهر أوبة فحسبي من الدنيا رجوعك لي بدل تذكرنيه الشمس عند طلوعها وتعرض ذكراه إذا غربها أفل وإن هبت الأرياح هيجن ذكره فيا طول ما حزني عليه وما وجل فأعمل نص العيس في الأرض جاهداً ولا أسأم التطواف أو تسأم الإبل حياتي أو تأتي علي منيتي فكل امرئ فان وإن غره الأمل ولكن بعد أن وجد حنان النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته مع ابنه، واختيار ابنه للنبي صلى الله عليه وسلم أحس أنه في أمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أولى به، فتركه للنبي صلوات الله وسلامه عليه، فكافأه النبي صلى الله عليه وسلم بأن تبناه وجعله ابناً له.
وقد توفي أبوه بعد ذلك فظل عند النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قتل زيد رضي الله تبارك وتعالى في غزوة مؤتة، في سنة ثماني من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم في سرية الأمراء التي أمّر النبي صلى الله عليه وسلم فيها زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة، وجعلهم على البدل، فقال:(أميركم زيد، فإن قتل فـ جعفر، فإن قتل فـ عبد الله بن رواحة).
فقتل الثلاثة في هذه الغزوة وبكاهم النبي صلوات الله وسلامه عليه، وتأمر بعدهم خالد رضي الله عنه من غير إمرة وفتح الله عليه في تلك الغزوة.
ومن يسمع هذه القصة يعرف عظيم حب النبي صلى الله عليه وسلم لـ زيد وحب زيد للنبي صلى الله عليه وسلم، وشفقة النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته معه، ولكن مع هذه المحبة العظيمة ينزل الله قرآناً على نبيه: أن لا تدعيه لنفسك فهو ليس ابنك! فينفذ النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر به، فمن سيكون بعد النبي صلى الله عليه وسلم أشد حباً لإنسان كهذا الحب الذي كان من النبي صلى الله عليه وسلم لـ زيد ومن زيد للنبي صلى الله عليه وسلم.