للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[اصطفاء الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم]

قال تعالى: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:١٣] أي: الله سبحانه يجتبي ويصطفي من خلقه من يشاء.

فإن الكفار غاروا من النبي صلى الله عليه وسلم، وحاروا في أمره عليه الصلاة والسلام، ونفسوا عليه ما هو فيه من رسالة ربه سبحانه، وأبوا أن يدخلوا معه في هذا الدين، كما قال تعالى: ((كبر على المشركين ما تدعوهم إليه))، من الدخول في دين التوحيد، فحسدوه على أن آتاه الله ذلك، مع أن هذا لم يكن بيده، ولم يكن يمن عليهم به، وإن كان فيه المن، وإنما كان يقول عن نفسه: إنه رسول من رب العالمين سبحانه وتعالى.

قال تعالى عن نبيه: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:٧]، أي: لا تعرف هذا الدين، وليس عندك أي فكرة عنه، وإن كان قبل أن يبعث وقبل أن ينزل عليه الوحي على غاية عظيمة من مكارم الأخلاق عليه الصلاة والسلام، فكان لا يذهب إلى أصنامهم كما يذهبون، وإنما كان يبتعد عنها، ويعرف أنها لا تنفع ولا تضر، ومع ذلك كان لا يعرف ما هو دين الله سبحانه، كما قال تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:٧] أي: عن دين الله، والذي دلك على هذا الدين هو الله؛ بخلاف البعض منهم كـ ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل، اللذين ذهبا يبحثان عن الدين الحق، فأما ورقة بن نوفل فتعلم النصرانية ودخل فيها.

وأما زيد بن عمرو بن نفيل فقال: والله يا رب! إني لا أعرف أي الطريق أحب إليك، ولو أني أعرفها لتوجهت إليك بها، فكان هذا على دين، وهذا على دين.

وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يفعل مثلهما، وما كان يعرف ذلك، قال تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} وكان غيره قد سمع من اليهود والنصارى أن هذا العصر وهذا الزمان وهذه السنين التي نحن فيها سيظهر فيها نبي، وتنزل عليه الرسالة، وقد كان اليهود يقولون ذلك، ويستفتحون على الذين كفروا، فكانوا يقولون لهم: سيأتي نبي وسنقاتلكم معه، وكان المشركون يتساءلون: هل سيظهر نبي أم لا؟ وهل اليهود سيصدقون أم يكذبون؟ وبعض هؤلاء مثل أبي عابد الراهب لما سمع ذلك قال: لماذا لا أكون أنا هذا النبي؟ فذهب يتعبد وينتظر أن تنزل عليه الرسالة، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فما كان يجهز نفسه لشيء من ذلك، ولكن كان الله سبحانه وتعالى هو الذي يجهزه.

فلما نزلت الرسالة على محمد صلى الله عليه وسلم كفر أبو عابد الراهب واشتد كفره، وفسق في هذا الدين أشد الفسق، وبعد عنه أشد البعد، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم بـ أبي عامر الفاسق؛ لأنه كان يتعبد في الجاهلية ويبحث عن الدين، فلما جاء الدين الحق نفس على النبي صلى الله عليه وسلم ما آتاه ربه سبحانه وتعالى، وغار وتغيظ عليه وأبى أن يدخل في دينه.

وآخر كان ينتظر أن تنزل عليه الرسالة -وهو أمية بن الصلت - ويظن أن يكون هو الرسول، وكان يقول لمن حوله: أنا الذي سوف أكون رسولاً في هذا الزمان.

فقابله أبو سفيان بعد أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: ما تقول في محمد؟ وقد كان أبو سفيان كافراً.

فقال: أما الرسالة فهي، وأما هو ففي نفسي شك منه.

يعني: هذه الرسالة هي من رب العالمين فعلاً، وهذا هو الناموس فعلاً، وأما أن يكون هو النبي ففي قلبي شيء منه.

سبحان الله! وهل ستنزل الرسالة على غير مرسل؟ فإذا كان قد عرف أن الرسالة صحيحة، وأنها قد جاءت من رب العالمين، فقد كان الأولى به أن يصدق أن محمداً هو رسول رب العالمين صلوات الله وسلامه عليه، وعندما جاءته الوفاة قال لمن حوله: أما الرسالة فهي، وأما أنه هو ففي قلبي منه شيء.

ومات الرجل على ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وقد كان شعره ممتلئاً بالتوحيد، وكان يتكلم بالتوحيد في أشعاره، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع أشعاره وقال عنه (آمن شعره وكفر قلبه)، والله يهدي من يشاء، ويضل من يشاء سبحانه وتعالى، بيده مقاليد كل شيء.

فالمقصود: أنه غار المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم وحسدوه، فأمر الله عز وجل المؤمنين بأن يتجمعوا حول هذا الدين، ولا يتفرقوا عنه، فالمشركون إنما فعلوا ذلك بغياً منهم على المؤمنين، وليس لشيء آخر.

قال الله سبحانه وتعالى: ((اللَّهُ يَجْتَبِي)) أي: يختار ويصطفي وينتقي ويأخذ من يشاء من عباده، فيجعله رسولاً ونبياً، فالخيرة لله سبحانه وتعالى، وليس لكم الخيرة، وليس الاختيار إليكم أنتم، وإنما الخيرة إلى الله سبحانه وتعالى، فهو (يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ)، وقد اجتبى نبيه صلوات الله وسلامه عليه، واختاره لأن يكون رسولاً من صغره عليه الصلاة والسلام، فرباه سبحانه وتعالى ليعرف أن الفضل من الله وحده عليه، وليس لأحد فضل عليه، صلوات الله وسلامه عليه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>