قال الله عز وجل:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ}[الشورى:٢٤]، لو حصل أنك افتريت على الله سبحانه -وحاشا له صلوات الله وسلامه عليه- لختم الله عز وجل على قلبك، فهؤلاء بلغت بهم السفاهة أن يظنوا أنك تكذب على الله سبحانه، ويؤيدك الله بالمعجزات وأنت تكذب عليه كيف يكون ذلك؟ ولو حصل أنك كذبت على الله- وحاشا له صلى الله عليه وسلم- لطبع الله على قلبك وعاقبك، وهم يعرفون كيف ينتقم الله عز وجل ممن يعصيه وخاصة في الحرم، فقد كان عندهم تمثالان: إساف ونائلة، يقولون: هما رجل وامرأة كانا يزنيان في الحرم فمسخهم الله إلى صنمين، فكانوا يعرفون أن هذين ارتكبا معصية لله عز وجل في الحرم، والكفار كانوا يقعون في الزنا.
فالله عز وجل يعاقب داخل الحرم من يقع في معصية أو يكذب على الله سبحانه، فإن أبرهة لما أتى إليهم من اليمن وأراد أن يدمر الكعبة وأن يصرفهم من التوجه إلى البيت إلى القليس دمره الله عز وجل وجنده، قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ}[الفيل:١ - ٢]، أي: في ضلال، تاه كيدهم وذهب والإنسان يجمع كيده حتى يتوجه بهذا الكيد كله على عدوه فيقصمه، فإذا جمع العدد والعدد، وجاء بسلاحه هذا، وفجأة ضرب بالسلاح فكان هباءً منثوراً، وذهب وضل كيده، قال تعالى:{وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ}[الفيل:٣ - ٤]، أي: من نار جهنم {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ}[الفيل:٥]، أي: صاروا كتبن أكلته البهائم ثم روثتهم، فالله هو الذي يصنع ذلك بأعدائه دائماً، فهل يترك الله إنساناً يفتري عليه، وليس هذا فقط، بل ويؤيده بالمعجزات، فيعطيه القرآن العظيم المعجزة الخالدة، ويجعله يشير إلى القمر فينشق القمر، ويرون من آياته صلوات الله وسلامه عليه ومعجزاته، أين ذهبت عقول هؤلاء؟ ولذلك يقول لهم سبحانه وتعالى، ويقول لنبيه صلى الله عليه وسلم:{فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ}[الشورى:٢٤]، ولها معانٍ من ضمنها هذا المعنى الذي ذكرناه، فقوله تعالى:{فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ}[الشورى:٢٤]، أي: إن كذبت على الله سبحانه وتعالى فالله عز وجل يطبع على قلبك وينسيك هذا الذي أنت فيه من أمر الدعوة إلى الله والرسالة وغير ذلك.
والمعنى الآخر لقوله تعالى:{فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ}[الشورى:٢٤]: إن يشأ الله يحرمهم من هذا الفضل العظيم ويحرمهم من هذا القرآن، فيختم على قلبك فلا تبلغهم شيئاً، ففي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن الله اطلع على أهل الأرض فمقتهم جميعهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)، فقبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم اطلع الله على أهل الأرض فأبغضهم جميعهم ومقتهم، والمقت: أشد البغض لشركهم بالله، إذ كانوا يعبدون الأصنام وكانوا يتوجهون بها إلى الله سبحانه، وكان يأكل بعضهم بعضاً، ويغصب بعضهم مال بعض، ويأخذ بعضهم حريم بعض، ولا يوجد عدل بينهم، ولا إحسان فيما بينهم، فمقت الله أهل الدنيا جميعهم إلا بقايا من أهل الكتاب كانوا على التوحيد، وليس كل أهل الكتاب، وإنما الذين كانوا على التوحيد، وكانوا ينتظرون خروج النبي صلوات الله وسلامه عليه.
الغرض: أن الله عز وجل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِنْ يَشَإِ اللَّهُ}[الشورى:٢٤]، (إن) لفظة جازمة، تفيد تأكيد أن هذا قبل الحدوث، بخلاف (لو) فإنها تفيد امتناع وقوع شيء لامتناع وجود شيء آخر، فهي حرف امتناع لامتناع، تقول: لو جئتني أكرمتك، فهو يعرف أنك لن تأتي، ولكن الله تعالى قال:{إِنْ يَشَإِ اللَّهُِ}، فالقدرة صالحة، والله قادر على كل شيء سبحانه وتعالى.
ولذلك كان يقول لنبيه صلوات الله وسلامه عليه:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لقمان:١٣]، ويقول:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}[الزمر:٦٥]، هذا النبي صلوات الله وسلامه عليه، وحاشا له أن يقع في الشرك صلى الله عليه وسلم، ولكن الإنسان طالما وهو في الدنيا فهو في قضاء الله وقدره سبحانه وتعالى، قال تعالى:{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:٢٨٤]، فلا يعجزه شيء، فإذا قال ذلك لنبيه صلى الله عليه وسلم فمن باب أولى أن يخاف المشركون على أنفسهم؛ إذ إن هذا القول للنبي الذي هو خليل الرحمن وحبيب الله سبحانه وتعالى ومع ذلك يقال له ذلك، إذاً: خافوا على أنفسكم أنتم.
فقوله تعالى:{إِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ}[الشورى:٢٤]، أي: ينسيك هذا الذي آتاك الله سبحانه وتعالى، ويحرمهم من هذا الفضل.
المعنى الثالث لقوله تعالى:{إِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ}[الشورى:٢٤]، أي: يربط على قلبك، ويقويك على هؤلاء، وهذا وعد قد فعله الله سبحانه وتعالى ونفذه، فـ (إن) تفيد احتمال وجود ذلك، بخلاف (لو)، والآية تحتمل معاني كما ذكرنا، وبعضها يعضد بعض وليست متنافرة.