[تفسير قوله تعالى: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين)]
هؤلاء جزاؤهم عند الله جزاء عظيم، ولا يتخيل الإنسان عظمة هذا الثواب وفضل الله سبحانه وتعالى في ذلك، فلا تعلم نفس مهما أوتيت من علم: {مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:١٧].
قراءة الجمهور: {مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}، وقراءة حمزة والكسائي ويعقوب: ((مَا أَخْفَي)).
على الماضي، والأولى على المبني للمجهول، أي: ما قد أخفي لهم، فبنى الفعل للمجهول، والمعنى: تعظيم هذا الشيء الذي قد أخفي لهم، والذي أخفاه هو الله سبحانه الذي خلقه، فقد أخفى عنهم ذلك ليعملوا بالغيب وللغيب، فهذا غيب الثواب، والجنة غيب، والنار غيب، فالإنسان يعبد ربه وهو مستيقن بهذا الغيب، ومستيقن بثواب الله سبحانه، فيستحق هذا الثواب الذي أخفاه الله سبحانه وآمن به العبد، فهؤلاء يؤمنون بالغيب، ويؤمنون بالجنة ولم يروها، ويخافون من النار ولم يروها، فلذلك استحقوا هذا الثواب من الله سبحانه وتعالى.
والقراءة الأخرى: (مَا أُخْفِيَ لَهُمْ) أي: ما أخفيه على الفعل المضارع، أي: الذي أخفيه لهؤلاء من الثواب العظيم عندي.
وقوله تعالى: {مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}، أي: مما تقر به أعينهم وتستقر وتفرح وتطمئن به، وتطمئن القلوب من قرة الأعين، فداخل الجنة يكون قرير العين، يعني: فرحان في غاية الفرح، يقال لهم: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:٣٢]، فهم في جنة يحبرون، ينعمون، ويسرون، وقال تعالى في سورة يس: {فَاكِهُونَ} [يس:٥٥]، فرحون مسرورون، لا أحزان في الجنة، ولا خوف فيها، قال تعالى: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:٣٨].
هذا الجزاء من الله بسبب ما كانوا يعملون، بسبب العمل الذي عملوه في الدنيا، إذ عاشوا في الدنيا يعبدون الله سبحانه بالمعنى الأعم للعبادة، بصلاة، وصيام، وزكاة، وحج، وأمر بالمعروف، ونهي عن منكر، وجهاد في سبيله سبحانه، فهم يعبدون الله بأعمالهم وتقواهم، ويتقنون أعمالهم ويتقربون بها إلى الله سبحانه بكل ما فرضه الله عز وجل عليهم وحثهم عليه، واستحبه منهم، فهم يفعلون ما يرضي ربهم سبحانه، فجازاهم الله بالجنة، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.
وفي الحديث: قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واقرؤوا إن شئتم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:١٦]، إلى قوله سبحانه: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:١٧]).
أيضاً جاء في صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سأل موسى عليه السلام ربه فقال: يا رب! ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ فقال الله عز وجل: هو رجل يأتي بعد ما يدخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب! كيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟! فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟)، هذا أقل أهل الجنة منزلة، يقال له: (أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب)، ويرضى بأقل من ذلك (فيقول: لك ذلك ومثله، ومثله ومثله معه، ومثله ومثله ومثله، فيقول في الخامسة: رضيت رب، فقال: هذا لك وعشرة أمثاله!) يعني رضي بالشيء الواحد مثل ملك من ملوك الدنيا، فقال: مثله ومثله، ومثله ومثله، ومثله خمس مرات، قال: رضيت رب، قال: وعشرة أمثال هذا أيضاً، هذا لأقل أهل الجنة منزلة.
قال: (ولك ما اشتهت نفسك، ولذت عينك، فيقول: رضيت رب، قال: رب فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردتهم، غرست كرامتهم بيدي) غرست، يعني: ما أكرمهم به في الجنة أنا بيدي فعلت لهم ذلك، قال: (غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها) يعني: أغلقتها وأخفيتها فلا يراها أحد أبداً، قال: (فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر).
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومصداقه من كتاب الله: قوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:١٧])، هؤلاء أعلى أهل الجنة منزلة، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.