[قصة أصحاب القرية]
يذكر القرآن قصة لأناس سبقوا النبي صلوات الله وسلامه عليه، كانوا في عهد المسيح عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} [يس:١٣].
وهم رسل المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، كانوا يدعون أقواماً إلى الله سبحانه وتعالى، وهذه القرية قالوا هي قرية أنطاكيا، وهي في شمال سوريا قريبة من البحر المتوسط وليست عليه، فهذه القرية أرسل الله سبحانه وتعالى إليها ثلاثة من رسل المسيح عليه الصلاة والسلام، أمرهم أن يذهبوا فيدعوا أهل هذه القرية.
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا} [يس:١٣]، يعني: هذا من الأمثلة التي يتعجب لمثلها، فاحذروا أن تكونوا مثل أهل هذه القرية، كأنه يقول: قص عليهم هذه القصة لتكون لهم كالمثل وكالعظة وكالعبرة حتى لا يقعوا في ذلك، ولا يستحقوا عذابنا بكفرهم.
((إِذْ أَرْسَلْنَا))، الأمر من الله سبحانه، والذي ينفذ هذا الأمر المسيح عليه الصلاة والسلام، فأمر هؤلاء أن يتوجهوا إلى هذه القرية، وقيل: إنهم ذهبوا بعد رفع المسيح عليه الصلاة والسلام وقيل: بل في وجوده، والله أعلم بذلك؛ ولكن القصة هنا لم تذكر وجود أو عدم وجوده.
فتوجه اثنان منهما إلى هذه القرية يدعوان ملكها إلى دين الله سبحانه تبارك وتعالى، {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} [يس:١٤]، فكذبوا هذين الاثنين: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس:١٤]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة شعبة عن عاصم: ((فَعَززْنَا بِثَالِثٍ))، والتعزيز بمعنى الشد والتقوية، يعني: شددنا الاثنين بثالث، يقويهما ويتكلم معهما، ويدعو إلى الله سبحانه تبارك وتعالى.
{فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس:١٤]، قالوا لملك هذه القرية {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس:١٤]، أرسلنا المسيح عليه الصلاة والسلام بدعوة الله سبحانه تبارك وتعالى يدعوكم إلى عبادة الرب سبحانه.
وعادة أهل الكفر التكذيب والإعراض، فقالوا: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} [يس:١٥]، من غير أن ينظروا لآية في أيديهم، ولبينة معهم، الكبراء من القوم يصدون خوفاً على الكراسي، فعندما يجيء هؤلاء يدعونهم إلى دين الله فيسلم الضعفاء يشعر الكبراء أن الرئاسة ضاعت منهم؛ لأن هؤلاء الرسل سيحكمون فيهم، فلذلك أول من يصد عن سبيل الله هم الكبراء من القوم الذين يرفضون ويعرضون، ويقولون: أنتم مجانين، أنتم كاذبون.
وقالوا هنا: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} [يس:١٥]، وكأنهم دعوهم إلى الرحمن سبحانه، فقالوا: {وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} [يس:١٥].
قالت الرسل: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [يس:١٦]، يعني: نحن صادقون فيما نقول، والله يشهد علينا بأنا صادقون فيما نقول: {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [يس:١٧]، كما قال الله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:٥٤]، وقال الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:٢١ - ٢٢]، لا تملك أن تحول هؤلاء من كفر إلى إيمان، إنما تملك أن تدعوهم، {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:٤٨]، فيدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم والله يقص عليه مثل هذه القصة حتى يطمئن.
كذب الذين من قبله وأوذوا أذى شديداً وصبروا كما سننظر في هذه القصة، قال هؤلاء القوم للرسل: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [يس:١٥ - ١٧]، ما علينا إلا أن نبلغ رسالة الله سبحانه بلاغاً بيناً واضحاً، ونريكم آيات الله سبحانه وتعالى.
{قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا} [يس:١٨]، أي: نحن تشاءمنا منكم.
وقيل: إنهم عندما لم يستجيبوا منع عنهم المطر ثلاث سنوات أو فترة طويلة، فقالوا للرسل بدلاً من الاستجابة: أنتم شؤم علينا.
{قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يس:١٨]، إما أن تنتهوا عن هذا الذي تدعوننا إليه، وتذهبوا بشؤمكم، أو نرجمكم.
والرجم هو القذف بالحجارة حتى القتل، كأنهم يهددونهم بأن يقتلوهم رمياً بالحجارة، سنعذبكم، سنفعل بكم ونفعل من ألوان العذاب، وإما أن تنتهوا عما أنتم فيه.
فقالت الرسل: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس:١٩]، شؤمكم معكم، شؤمكم منكم، أنتم سبب الكوارث والمصائب التي تحدث لنا.
((طَائِرُكُمْ)): صحف أعمالكم التي تعملونها معكم، كفركم بالله سبحانه تبارك وتعالى هو الذي يجلب عليكم العذاب، والشؤم الحقيقي يوم القيامة حين دخول النار، أما في الدنيا فمهما حدث فهذه أشياء ليست بالأشياء الكبيرة إنما كفركم هو سبب بلائكم.
{أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} [يس:١٩]، أئن ذكرناكم بالله سبحانه تبارك وتعالى أعرضتم وقلتم مثل ذلك: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس:١٩].
أي: أسرفتم على أنفسكم بالكفر، أسرفتم على أنفسكم حين لم تنظروا فيما دعوناكم وتركتمونا وديننا، وفي كفركم الإسراف وتجاوز الحد، ولا تريدون أن تنظروا إلى الآيات التي معنا.
وقد جعل الله عز وجل لهم آيات يعلم بها الناس أن هؤلاء رسل الله، ومعهم معجزات من الله سبحانه وبينات، فلم ينظروا فيما معهم، وقالوا: أنتم قوم كاذبون، ولم يؤمنوا، ولم يصدقوا، قال الرسل: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس:١٩]، أي: مفسدون في الأرض، أسرفتم على أنفسكم بالكفر، ولم تنظروا في آيات الله سبحانه وتعالى.