يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن موقف من مواقف القيامة، قال تعالى:{َيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا}[سبأ:٤٠] أي: اذكر هذا اليوم يوم يحشر الله الناس، فيبعثون من قبورهم وينشرون ثم يحشرون ويجمع بعضهم إلى بعض إلى الموقف العظيم بين يدي الله عز وجل، قال تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ}[سبأ:٤٠] يسأل الله الله سبحانه الملائكة: هل كان هؤلاء يعبدونكم من دون الله سبحانه؟ والملائكة لم توافق على هذه العبادة أبداً، ولم تكن لترضى أن تعبد من دون الله سبحانه، وهم الذين خلقهم الله، فهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ولكن هذا السؤال تبكيت لهؤلاء الكفار، وتوبيخ لهم، وإقامة الحجة عليهم بإدخالهم النار والعياذ بالله.
وكان هؤلاء الكفار في الدنيا يعبدون الجن، ويزعمون أن هؤلاء الجنة الذي يعبدونهم هم الملائكة، وأنهم بنات الله سبحانه وتعالى، فذكروا أن قبيلة من العرب من خزاعة كانوا يعبدون الجنة، ويزعمون أن الجِنة تتراءى لهم، ويزعمون أن الجن هؤلاء ملائكة، وأنهم بنات الله، حاشا لله سبحانه وتعالى، فهو قول الله عز وجل:{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}[الصافات:١٥٨].
والكافر لا يستحيي من ربه سبحانه وتعالى أن يفتري عليه، بل يقول ما لا يعرفه فيتكلم بالكلام العجيب، ويتعجب من الكلام الصحيح الذي لا يتعجب من مثله، فيقولون: الملائكة بنات الله، وليس عندهم أثارة من علم على ذلك، فإذا أخبروا أن الإله إله واحد لا شريك له، أحد صمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد قالوا:{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}[ص:٥] فيعجبون أن يكون المعبود واحداً، والعقل إذا نظر وتفكر لم ينكر هذا المعنى أبداً، بل هو المعنى الذي لا يقبل العقل غيره، فما الاستحالة وما وجه العجب حتى يقولوا:{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا}[ص:٥]؟! فإن الإله الواحد الذي يستحق العبادة: هو الذي يخلق، وهو الذي يرزق، وهو الذي يملك النفع والضر سبحانه وتعالى، وقد علموا أن ما يعبدون من دون الله لا يملكون لهم نفعاً ولا ضراً، لكنهم عبدوهم من دون الله، وزين لهم الشيطان سوء أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون.
قال تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا}[سبأ:٤٠] قراءة حفص عن عاصم ويعقوب أيضاً: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ}[سبأ:٤٠] أما باقي القراء فيقرءونها بنون العظمة: (ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون).
فالله عز وجل يسأل الملائكة توبيخاً لهؤلاء المشركين الذين زعموا أن الملائكة بنات الله، وأنهم يعبدون الملائكة من دون الله سبحانه تبارك وتعالى كما يسأل الله المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}[المائدة:١١٦]، وقد علم الله يقيناً أن المسيح لم يقل ذلك صلوات الله وسلامه عليه، ولكن ليبين لهؤلاء الكذابين الذين زعموا أن المسيح دعاهم إلى أن يعبدوه من دون الله، أنت قلت كذا؟ فيكذبهم ويقول:{سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}[المائدة:١١٦] ما قلت لهم إلا هذه الكلمة: أن يعبدوا الله، ما قلت لهم إلا ما أمرتني أنت به أن يعبدوا الله، فهنا أمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له.