[تفسير قوله تعالى: (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا)]
قال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:٥٧].
فالكفار لما رأوا الآيات وعرفوا الحق الذي جاء من عند رب العالمين، أرادوا أن يتعللوا من عدم دخولهم في هذا الدين، فتعللوا بأنهم خائفون، وقالوا: إن نتبع الهدى معك فإن العرب كلها ستأتي علينا في أرضنا وتقاتلنا، ونحن لا نقدر على قتالهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: قائل ذلك من قريش هو الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف القرشي، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لنعلم أن قولك حق، ولكن يمنعنا أن نتبع الهدى معك ونؤمن بك أن يتخطفنا العرب من أرضنا.
يعني: لاجتماع العرب على مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ولا طاقة لنا بهم ولا نقدر عليهم.
فلما قالوا هذا الكلام للنبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله عز وجل ما يبين لهم أين ذهبت عقولهم؟! وأي عرب ستأتي إليكم في أرضكم؟! قال الله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} [القصص:٥٧] أي: أنتم في الجاهلية كنتم أضعف الناس ولم يستطع أي أحد أن يأتي إليكم في مكة ويأخذ هذه الأرض، حتى أبرهة الذي جاء من اليمن بجنود لا حصر لها، وجاء بفيل يريد أن يهدم الكعبة ولم تقدروا له على شيء فخرجتم وتركتم مكة بما فيكم عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، وقام عبد المطلب يخاطب أبرهة عن إبل أخذها منه، وكان أبرهة كبره جداً، ونظر إليه أنه كبير مكة، وأنه جاء يفاوضه في أمر هدم الكعبة، فإذا بـ عبد المطلب يفاوضه في أمر إبله، فكأنه استقله فقال له عبد المطلب: إن الإبل أنا ربها، وأما البيت فله رب يحميه.
وخرج أهل مكة ينتظرون ماذا سيكون، وجاء أبرهة بجنوده، وإذا بالفيل يتردد ويتراجع، فإذا بهم ينخسونه وهو يرجع مرة أو مرتين أو ثلاث مرات، ونزل العذاب من عند رب العالمين، قال تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:٣ - ٥] فإذا بهم يصيرون كطعام أكل وخرج من دبر الدابة، هكذا كان أمر هؤلاء الذين أرادوا أن يهدموا البيت وأن يذلوا أهل مكة.
فإذا كانوا في الجاهلية وهم يعبدون غير الله ويشركون بالله، قد دفع الله عز وجل عنهم الأذى، أيتركهم في الإسلام وهم الموحدون لله رب العالمين؟ قال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:٥٧] أي: أليس نحن من فعلنا بهم هذا الشيء، فأين شكر هذه النعمة؟! وكيف لا يثقون في الله سبحانه وتعالى وهو الذي آمنهم من خوف وأطعمهم من جوع.
قوله: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:٥٧] أي: ينقل إليه ويحضر إليه ويؤتى بهذه الثمرات إلى مكة، ومكة ليست بمكان زرع، ولكن الله عز وجل منّ على أهلها أن يجبى إليها الثمرات من كل مكان: من اليمن ومن الشام وغيرها، وتجد فيها فاكهة الصيف وفاكهة الشتاء.
{يُجْبَى إِلَيْهِ} [القصص:٥٧] أي: تأتي إلى هذا الحرم من كل أرض ومن كل بلد تأتي إليه هذه الثمرات، فإذا كان الله قد منّ عليكم بالأمان في الجاهلية وبالطعام الذي يؤتى إليكم من كل مكان، أفلا تشكرونه وتثقون فيه سبحانه وتعالى.
قال: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ} [القصص:٥٧] هذه قراءة الجمهور بالياء.
وقراءة نافع وأبي جعفر ورويس عن يعقوب: ((تجبى إليه ثمرات كل شيء)) بالتاء.
قوله تعالى: {رِزْقًا} [القصص:٥٧] حال أي: حال كونها رزقاً من الله عز وجل، أو أنها تمييز فهذه الثمرات رزق من الله سبحانه وتعالى.
قوله: {رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [القصص:٥٧] إذا نسب الرزق إليه سبحانه فمعناه أنه رزق عظيم جداً يتحير الإنسان فيه، فعندما يذهب الذاهب إلى هناك في أي وقت من الأوقات يجد الفواكه من كل مكان، وهذا من كرم الله على أهل هذه البلدة ببركة دعوة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ودعاء نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
قوله: {مِنْ لَدُنَّا} [القصص:٥٧] أي: من عندنا.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:٥٧] أي: لا يعلمون نعم الله عز وجل أنه الذي يعطي هذه النعم ويسوقها إليكم، وهو الذي يمنع عنكم النقم ويدفعها عنكم، فهو القادر سبحانه على كل شيء، ولكنهم نسوا كل ذلك.