قوله:((تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ)) وهذا من باب العام المخصوص، فهي لم تدمر كل شيء، فلم تدمر هوداً، ولم تدمر المؤمنين الذين معه، وهذا كما يقول الأصوليون: قد يأتي العموم ويراد به الخصوص، وقد يأتي العموم الذي يخصص إما بالنص، وإما بالإجماع، وإما بالعقل، وإما بالعرف ونحو ذلك، فهذا من العموم الذي يخص بما دل النص عليه، ويخص بالعقل أيضاً.
فهنا الرياح دمرت كل شيء أراد الله عز وجل تدميره، أما ما لم يرد تدميره فلم يدمر، ولذلك في الآية نفسها يقول الله:((فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ)) فالمساكن لم تدمر، ولو أراد الله عز وجل لدمر كل شيء، ولكن دفن هذا كله بالرمال، فالرمال تؤمر لتدفن هؤلاء ولا تدفن المؤمنين، فالله عز وجل فعله عظيم، ومثل هذا الشيء شاهده أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه في يوم الخندق، فكان الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم في غاية الرعب والفزع من الكفار، وقد تجمع عليهم الأحزاب من كل مكان، فما كان من أهل المدينة إلا أن أخذوا برأي بعضهم في حفر خندق يمنع وصول المشركين إليهم؛ لأنهم لا يستطيعون مواجهة هذا العدد الضخم من الكفار، ويبقى اليهود من ورائهم يحمون ظهورهم، لكن اليهود نقضوا العهد مع المسلمين، فأصبح المؤمنون في غاية الخوف والرعب، وفي هذه الظروف الحرجة تأتي ريح شديدة، وبرودة شديدة، والصحابة ما زالوا يرتعشون ويرتجفون، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:(من يأتينا بخبر القوم؟ -وهو على يقين أن الله سينصره- فلا أحد يجيب من شدة البرد ومن شدة الخوف، ثم قال: قم يا حذيفة! ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إليه لما قام أحد، فقام حذيفة وتوجه إلى جيش المشركين، فقال رضي الله عنه: فكأني أسير في حمام)، والحمام هو مكان الحميم، وهو الماء الساخن، فكان الفرق شاسع بين رياح جيش المسلمين ورياح جيش المشركين، فما إن وصل إلى معسكر الشرك وجد أمراً يخيف، فوجد الرياح تقتلع خيامهم، وتكفئ قدورهم، والعجب أن المكان واحد، فهنا المسلمين وهناك المشركين، والريح آتية على الجميع، لكن هنا صورة وهناك صورة أخرى، فسبحان مقلب الأمور، فيقلبها كيف يشاء، فأرسل الرياح ليقول لنا: قوم عاد فعلنا بهم كذا وكذا، وأنجينا المؤمنين منهم، كما أنجينا النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه في يوم الأحزاب، وذلك عندما جاءت الريح على الجميع.
وفي يوم بدر لما أنزل الله عز وجل المطر جعله تثبيتاً للمؤمنين، وتخويفاً لهؤلاء الكافرين، وجعله أمنة للمؤمنين ليطهر به قلوبهم، ويثبت به أقدامهم، ويذهب عنهم الرجز والآلام التي في أنفسهم، وأما الكفار فيخزيهم ويكبتهم سبحانه وتعالى.
قال تعالى:((تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا)) فكل شيء راجع إلى أمره سبحانه، فهو الذي أمر الرياح بتدمير هؤلاء، فدمرت هؤلاء، ((فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ)) فأصبح الذاهب إلى هنالك لا يرى إلا المساكن، وأما الأقوام فقد دفنوا تحت الأرض.
{فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}[الحاقة:٧] صُرع القوم، ثم دفنوا تحت الرمال هم وبيوتهم.
قال سبحانه:((فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ)) أي: هذا حكمنا فيمن كذب رسلنا وخالف أمرنا، و (ذلك) اسم إشارة للبعيد، وقد يكون للشيء العظيم الذي حدث، وهو أن هؤلاء كانوا في غاية القوة فأهلكهم الله هلاكاً عظيماً، وكذلك هو إهلاكنا وعقابنا لكل مجرم يحاد الله ورسوله.