[تفسير قوله تعالى: (الله لطيف بعباده يرزق من يشاء)]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشورى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ * مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ} [الشورى:١٩ - ٢٢].
قال الله عز وجل: ((اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ)) سبحانه وتعالى، واللطيف: البر الرفيق سبحانه وتعالى، يبر عباده ويعطيهم ويرزقهم ويمنحهم سبحانه، واللطيف: ذو العلم الخفي، والتقدير المحكم الجميل سبحانه وتعالى، له في عباده لطفٌ في إيصال الخير لهم، وفي صرف الشرور عنهم؛ ولذلك عقب ذلك بقوله: ((اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ)).
يرزق العباد بعضهم من بعض، والله عز وجل له حكمة عظيمة إذ جعل هذا صغيراً وهذا كبيراً، وهذا يريد هذه الصنعة، وذاك يريد صنعة أخرى، وجعل عباده يحتاج بعضهم لبعض، وهذا من لطف الله بعباده، ولو أن كل إنسان قدر أن يخدم نفسه، وقدر على كل مصالحه، ما احتاج واحد لآخر، لكن الله سبحانه قال: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:١٣].
والإنسان عندما يرى نفسه مستغنياً عن خلق الله سبحانه يستكبر عليهم، ولا ينظر لأحد منهم، ويرى أنه لا يريد من أحد شيئاً، فلا يريد أن يعرف أحداً، ولا يتعرف على غيره إلا إذا احتاج إليه في يوم من الأيام، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:٦ - ٧]، وطبيعة الإنسان إذا استشعر في نفسه الغنى لم يعد يحتاج إليك، فتراه يتكبر على الخلق، بل يتكبر على خالقه سبحانه وتعالى، ونسي أن الله هو الذي أعطى له ذلك، فإذا به يشرك بالله سبحانه، ويعبد غير الله، فإذا ضيق ربه عليه رجع إلى ربه يقول: يا رب يا رب! قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} [الزمر:٨]، وقال تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [الزمر:٤٩].
وهذه طبيعة عجيبة في الإنسان، فالإنسان عندما يضيق الله عليه يقول: يا رب! أعطني، فإذا أعطاه من فضله نسي ذلك وقال: بعملي وجهدي وذكائي، أنا وارث مال كذا، وربنا يعطيني لأني أستحق ذلك، فيغتر ويتكبر ويمن على ربه، بأنه يعبد الله سبحانه وتعالى، فلذلك من حكمته سبحانه أن جعل العباد فقراء، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر:١٥].
فيستشعر الإنسان الفقر في نفسه، فإنه مهما أعطاه الله الغنى يخاف أن ينقص المال، فيريد مالاً أكثر؛ لأنه يخاف أن يفاجأ بصروف السنين، فيحس أنه سيحتاج في يوم من الأيام، فيريد أن يكثر المال؛ لأن الإنسان فقير بخلقته وبطبعه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:١٥].
فالله وحده سبحانه الغني، وخزائنه ملأى لا تنفد، سحاء الليل والنهار، ينفق ويعطي عباده دائماً، وخزائنه لا تنفد أبداً.
والإنسان ظلوم كفار، ظلومٌ لنفسه، يشرك بربه، ويكفر نعم الله عز وجل عليه، قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:٣٤].
والله لطيفٌ بعباده سبحانه، فمن لطفه أن جعل بعضكم لبعض سخرياً، قال تعالى: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف:٣٢]، أي: سخره بأجره واستخدمه بأجرة، فيتخذ الناس بعضهم بعضاً، وكل فرد يحتاج إلى غيره، فقد يحتاج الغني إلى الصانع؛ لأنه لا يجيد الصنعة الفلانية، فيعطي الصانع أجرة على عمله، وبذلك حصل تبادل منافع بينهم، فلو لم يوجد الاحتياج لاستغنى الناس بعضهم عن بعض، ولتقطعت الأواصر والصلات بسبب الاستغناء، ولكن الله من لطفه الخفي سبحانه أن جعل عباده يفتقر بعضهم إلى بعض، فيحوج الله عز وجل العباد بعضهم لبعض، حتى يجتمعوا ويتعارفوا فيما بينهم.
قال تعالى: ((يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ)) سبحانه وتعالى، فالإنسان يحتاج إلى رزقه لأنه ضعيف، والله هو القوي لا يحتاج إلى أحد، وهو القاهر والغالب سبحانه، ومهما تعاظم في الإنسان قدر نفسه وقوته فليعلم أن الذي خلقه أقوى منه، وهذا هو الذي كان يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فقد رأى أبا مسعود البدري رضي الله عنه وهو يضرب غلاماً له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعلم أبا مسعود) فلم ينتبه أبو مسعود من شدة غضبه وضربه للعبد الذي عنده، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعلم أبا مسعود) فانتبه أبو مسعود فنظر، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم فكف عن ضرب الغلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام) أي: الله قادر على أن يمنع يدك هذه التي تضرب بها، والله قادر على أن يسلبك قوة يدك، فلا تقدر على أن تحركها، فاعلم حين ترى من نفسك القدرة على الغير، أن الله أقدر عليك، فهو قوي سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء.
فهو الرزاق لجميع العباد في وقت واحد، فترى كل عبد يجد ما يقوته وما يقوم بأمره، فهو القوي القاهر العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع سبحانه وتعالى، فرزقك المقسوم لا بد أن يأتيك مهما أخفاه غيرك ومهما أراد الغير أن يمنعه منك، فالله إذا شاء شيئاً فعله، ومن هذا الذي يغالب ربه، ويمنع نعمة أراد الله أن يرسلها لفلان؟! وما يفتح الله للعباد من نعمة أو فضل فلا أحد يقدر أن يمسك ذلك، وإذا أراد الله أن يمسك ذلك وأن يمنع فلا أحد يقدر أن يفتح ذلك، قال تعالى: {مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر:٢].
فقوله تعالى: ((وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ)) أي: عزيز لا يغالب ولا يمانع، إذا أراد شيئاً لا بد أن يوجد ويقع ما أراده الله سبحانه.