تفسير قوله تعالى: (بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون)
قال تعالى: {بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:٤] جاء القرآن ببشارة من الله بالجنة لمن أطاع واتبع الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، ونذير ينذرهم ويخيفهم من عذاب يوم أليم يوم يرجعون إلى الله سبحانه، قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:٣٤ - ٣٧].
فهو نذير ينذرهم بالموقف بين يدي الله سبحانه وتعالى، وبالعذاب الأليم لمن عصى الرسول عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} [فصلت:٤] أي: أعرض أكثرهم مع ما ذكر الله عز وجل ومع ما فهموا من ذلك، قال تعالى: {فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:٤]، وقد ذكرنا في الحديث السابق أنهم كانوا يسمعون، ولكن الله عز وجل أخبر أن سمعهم كلا سمع، كما أن علمهم كلا علم، لكونهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا ولم يتجاوز علمهم الدنيا إلى الآخرة، فكأنهم لا علم لهم، والدنيا قليلة حقيرة صغيرة مقابل الآخرة الكبيرة العظيمة، قال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:٦٤] فالدار الآخرة دار الحياة الدائمة ودار الخلود، فالذي لم يتجاوز علمه هذه الدنيا القصيرة الحقيرة، ولم ينظر في هذه الدار العظيمة الباقية الكبيرة فهو كالذي لا علم عنده، ولذلك قال الله سبحانه: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:٧].
وقد ذكرنا أن الكفار استمعوا لهذا القرآن، ولم ينتفعوا بما استمعوا بل عاندوا وأعرضوا كما قال الله سبحانه: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:٤] أي: لا ينتفعون بما استمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم، بل كانوا يهربون منه حتى لا يسمعوا هذا القرآن العظيم، وقد استمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم وعرفوا حلاوة هذا القرآن.
قال ابن إسحاق: ذكر عن الزهري قال: حدث أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق خرجوا ليلة يستمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل في جوف بيته عليه الصلاة والسلام، فجلس كل واحد منهم مختبئاً في مكان لا يراه صاحباه، ولا يراه النبي صلى الله عليه وسلم ليستمع لجمال هذا القرآن وحلاوته، فلما رجعوا إلى بيوتهم جمعهم طريق واحد، فاستحيا كل واحد منهم من الآخر، ثم تعاهدوا ألا يعودوا، ثم قال بعضهم لبعض: لو رآنا بعض السفهاء لوقع في نفسه شيء، وكأن هذا الشيء لم يقع في نفوسهم، وهكذا فعلوا في الليلة الثانية وفي الثالثة كذلك، ثم أصبحوا فجمعتهم الطريق فتعاهدوا أن لا يعودوا، ثم أتى الأخنس بن شريق أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني عن رأيك في هذا القرآن الذي سمعناه من محمد، فقال أبو سفيان: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، أي: أعلم أنه يدعونا إلى التوحيد، والذي يمنعنا من اتباعه جعله الآلهة إلهاً واحداً.
ولم يزد على ذلك وهو يعلم أن هذا الكلام ليس كلام كهانة ولا عرافة.
قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به فهمت هذا القرآن وعرفت الذي يراد منا.
ثم أتى أبا جهل فقال: ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال أبو جهل فرعون هذه الأمة: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا حتى إذا كنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يوحى إليه، فمتى ندرك ذلك؟ والله لا نؤمن به ولا نصدقه! ومعنى كلامه: أنهم تنازعوا على الشرف في الدنيا على السمعة، وكل فريق منا على قدر عظيم من إظهار النفس والفخر بين العرب، فإذا صدقنا نبيهم حازوا شرف السبق.
فقام الأخنس عنه وكأنه كان أطيبهم قلباً ينتظر من أحدهم أن يقول: إن هذا حق؛ لكي يظهر ما في قلبه، ولكنهما لم يفعلا، فـ أبو سفيان كتم وأبو جهل أظهر ما في قلبه من الحقد، وكان أشد الناس عداءً للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد كانت كنيته عندهم أبا الحكم ثم غيرها النبي صلى الله عليه وسلم فكناه بـ أبي جهل؛ لأنه عرف الحق وتنكب طريقه، ولم يرض بقضاء الله وقدره، بل حسد النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعرف فضله.
وأبو جهل الملعون صد الناس عن هذا الدين، وممن صده الوليد بن المغيرة إذ كاد أن يدخل في الدين لما سمع القرآن الكريم وقال: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوه، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر.
فقال له أبو جهل: قد أعطاك محمد مالاً لتتبعه! فإذا بالرجل يرجع عما قال فقال له: والله لا نسكت عنك حتى ترجع عما قلت وتشتم محمداً أو تقول فيما جاء به.
فكان من الوليد ما قصه الله تعالى في سورة المدثر فقال: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر:١٨ - ١٩] أي: لعنة الله عليه كيف قدر! {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} [المدثر:٢٠ - ٢٣] أي: بعدما أقبل على القرآن؛ إذا به يدبر ويستكبر عن الحق.
{فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:٢٤ - ٢٥]، فأغضب بقوله رب العالمين وأرضى أبا جهل لعنة الله عليهما وعلى أتباعهما، فغضب الله عليه وقال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر:١١] أي: اتركني وهذا الإنسان الذي جعلته وحيداً في قومه معه المال والولد في قومه بالرئاسة والشرف وبغير ذلك فسيأتيني وحيداً ليس معه شيء من ذلك.
والله سبحانه وتعالى قد أخبر عن هذا وأمثاله بقوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:٥] وقد جاء في الأثر عن جابر بن عبد الله وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أنهم ذكروا هذه القصة: قال الملأ من قريش وعلى رأسهم أبو جهل لعنة الله عليه: قد التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلاً عالماً بالشعر والكهانة والسحر فكلمه ثم أتانا ببيان أمره.
فقال عتبة بن ربيعة وهو أحد شيوخهم: والله لقد سمعت الكهانة والشعر والسحر، وعلمت من ذلك علماً لا يخفى عليّ إن كان كذلك، فقالوا: اذهب فحدثه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أنت خير أم قصي؟ يقول للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك كعادة العرب أن الشخص منهم إذا قيل له: أنت أحسن أم جدك؟ يستحي أن يقول: إنه أحسن ثم قال: فبم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا وتسفه أحلامنا وتذم ديننا؟ إن كنت إنما تريد الرياسة عقدنا لك ألويتنا فكنت رئيسنا ما بقيت.
وتأمل الفتنة بهذا الإغراء، إنه يعرض عليه رياسة قومه حتى يموت، مع أن عادة العرب أن في كل فترة يكون لهم رئيساً، لكنهم وجدوا الأمر أعظم من قدرتهم، وإلا فهم أبداً لا يعترفون لإنسان أن يكون وحده المتفرد فيهم بالرياسة.
ولذلك كان العرب يعيرون الفرس والروم ويقولون: إن الملك لا يصلح فيكم إلا لبيت واحد، أما نحن العرب فكل بيت فينا يصلح أن يكون الملك فيه؛ ولذلك ليس لدينا رئيس، وكل قوم منا لهم رئيس وحدهم، وقال قائلهم: إذا بلغ الفطام لنا صبي تخر له الجبابر ساجدينا وقال آخر: وليس يهلك فينا سيد أبداً إلا اشتلينا غلاماً سيداً فينا ثم قال عتبة للنبي صلى الله عليه وسلم: وإن كنت تريد الباءة زوجناك عشر نساء من أي بنات قريش شئت أي: إن كنت تعمل هذا تريد النساء فاخترلك عشر من خير نسائنا نزوجك بهن.
ثم قال: وإن كنت تريد المال جمعنا لك ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك، وإن كان هذا الذي يأتيك رئي من الجن بذلنا أموالنا في طلب ما تتداوى به أو نغلب فيك.
أي: إن كان ذلك رئي، أي: جليس من الجن بينك وبينه محبة داويناك أو غلبنا عن علاجك بعد بذل وسعنا، فلما انتهى من كلامه والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت قال: أفرغت يا أبا الوليد؟ فقال: نعم.
قال: اسمع.
فقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:١ - ٤] إلى أن وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله سبحانه: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:١٣] فلما سمع ذكر الصاعقة وضع يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أناشدك الله والرحم لا نريد صاعقة؛ خاف لأنه كان يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين ولا يكذب أبداً، فإذا خوفهم بشيء لابد أن يحدث، فقد انتفع بما سمع ثم رجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش وكاد الرجل أن يسلم لكن الملعون أبا جهل وقف له حجر عثرة فذهب إليه فقال: أصبوت إلى محمد أم أعجبك طعامه؟! كأنه يعيره بذلك، وهو رجل غني من الأغنياء فيقول: كنت جائعاً حين ذهبت إليه.
يعرف اللعين كيف يدخل عليهم من حيث لا يقدرون على الرد فيحرجهم، وغضب وأقسم أن لا يكلم النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وكان من المفترض أن يقسم