[موقف نعيم بن مسعود الأشجعي]
ولما علم الله من قلوب المؤمنين أنهم أقوياء في إيمانهم، جاء فضله سبحانه وتعالى عليهم، ولكل شيء سبب من الأسباب، فأرسل الله سبحانه وتعالى رجلاً كان كافراً وأسلم في ذلك الحين، واسمه نعيم بن مسعود الأشجعي، رجل من أشجع، وكان حليفاً لليهود يعرفه اليهود ويعرفه أهل مكة، فتوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يا رسول الله! إني قد أسلمت، ولم يعلم قومي بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما أنت رجل واحد من غطفان فلو خرجت فخذلت عنا).
النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أنه لا يعمل شيئاً في القتال، وإنما يستطيع أن يخذل بأن يلقي في قلوبهم الخوف ويوقع بينهم العداوة بحيث ينصرفون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلو خرجت فخذلت عنا إن استطعت كان أحب إلينا من بقائك معنا).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاخرج فإن الحرب خَدعة)، وهذه اللفظة تقرأ على وجوه، الحرب خَدعة، والحرب خُدعة، والحرب خِدعة، وكل وجه له معنى، وأجمل المعاني الحرب خَدعة، والمعنى: إذا عرفت أن تخدع خصمك فقد قتلته، وخَدعه قتله، وهي اسم مرة.
فخرج نعيم بن مسعود رضي الله عنه حتى أتى بني قريظة الذين خانوا النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان بينه وبينهم كلام ومنادمات وزيارات في الجاهلية، فقال: يا بني قريظة، قد عرفتم ودي إياكم، قالوا: قل، فلست عندنا بمتهم، أي: نحن لا نتهمك بشيء، وهم يظنون أنه ما زال على الكفر، فقال لهم: إن قريشاً وغطفان ليسوا مثلكم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادكم، وخلوا بينكم وبين الرجل ولا طاقة لكم به، فعليكم أن تأخذوا رهائن من قريش من أجل أن لا يفروا ويتركوكم لمحمد.
فقالوا: لا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً.
ثم تركهم وخرج وتوجه إلى قريش فقال لهم: قد عرفتم ودي لكم معشر قريش وفراق محمد، وقد بلغني أمر أرى من الحق أن أبلغكموه نصحاً لكم، فاكتموا عني.
قالوا: نفعل! قال: تعلمون أن معشر اليهود قد ندموا على ما كان من خذلانهم محمداً، وقد أرسلوا إليه أنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم.
ثم أتى غطفان وهو منهم وقال لهم مثل ذلك، فلما كانت ليلة السبت وكان ذلك من صنع الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أرسل الله تبارك وتعالى ريحاً تقلب عليهم أوانيهم، وتطفئ نيرانهم وأصبح الكفار متخبطين لا يدرون ما يعملون؟ فقالوا: إلى متى سنستمر فلنقم للقتال.
فأرسلوا لليهود: إنا لسنا بدار مقام وقد هلك الخف والحافر، فاغدوا صبيحة غد للقتال حتى نناجز محمداً فنقاتله ونخلص من هذه الحرب.
واليهود أرسلوا إليهم وقالوا لهم: إن اليوم يوم السبت، ونحن لا نقاتل يوم السبت، وقد علمتم ما نال منا من تعدى في السبت، ومع ذلك لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً.
فهذا الذي أراداه نعيم بن مسعود رضي الله عنه، فلما سمعوا ذلك قالوا: صدق نعيم بن مسعود فردوا إليهم وقالوا: والله لا نعطيكم رهناً أبداً، فاخرجوا معنا إن شئتم، وإلا فلا عهد بيننا وبينكم، فقال بنو قريظة: صدق والله نعيم بن مسعود! وخذل الله الكفار، فلا هؤلاء قاموا للقتال ولا هؤلاء.