[تفسير قوله تعالى: (يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل)]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة لقمان في وصية لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:١٦ - ١٨].
هذه من وصايا لقمان الحكيم لابنه وهو يعظه، وأول موعظة وعظ بها ابنه وأوصاه بها: ألا يشرك بالله سبحانه وتعالى، وقد ساق الله عز وجل هذه الموعظة في كتابه سبحانه لتكون موعظةً خالدة إلى قيام الساعة، فينصح كل إنسان مؤمن أبناءه بمثل هذه الموعظة، فالمؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فكيف بابنه! وكل إنسان يحب أن يكون أفضل من غيره، ولكنه يحب أن يكون ابنه أفضل منه، وهذا عادة في الناس، فكل إنسان يحب أن يكون أفضل من غيره، ويحب أن يكون ابنه أفضل منه وخيراً منه.
ولقمان هنا يعظ ابنه بالموعظة التي تنفع الابن ويعود النفع على الأب؛ لأن الابن من كسب أبيه، فقال: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:١٣]، ثم نصح ابنه في موعظته العظيمة له بأن يطيع الله سبحانه وتعالى ويخاف منه، فهو الذي يعلم ما دق وما عظم، ويعلم كل شيء، فقال: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:١٦].
فهو يعظ ابنه بأن يخاف من الله سبحانه، الذي يعلم كل شيء، ويقول له: لو أنك أخفيت عملك في مكان لا يطلع عليه أحد من الخلق فالله يطلع عليك، ولو أنك أخفيت معصيتك في ظلمة الليل أو في ظلمة البحر أو في مكان تظن ألا يطلع أحد عليك، فيه فإن الله يعلم ما تفعل وسيحاسبك عليه.
وذكر له هذا المثل وهو: لو أن هذا العمل كان عملاً يسيراً صغيراً بقدر مثقال حبة الخردل التي هي أقل الحبوب حجماً ووزناً، وأراد الإنسان أن يخفيه، فأخفاه في صخرة عظيمة كبيرة، وألقيت هذه الصخرة في مكان في السماء أو في الأرض؛ لم يخف ذلك على الله سبحانه وتعالى، فإنه مطلع على كل شيء ورقيب عليه، ولذلك قال: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:١٦].
والسموات مأمورة، وكذلك الأرض، وكل شيء يأمره الله بقوله: كن فيكون، فلو خبأ الإنسان شيئاً في الأرض فإن الله عز وجل يأمر الأرض التي جمعت هذا الشيء في بطنها أو ظهرها أن تأتي به، فتأتي الأرض به مطيعة لله عز وجل، كما في قصة الرجل الذي أمر أولاده إذا مات أن يحرقوه ثم يسحقوه، ثم ينتظرون في يوم شديد ريحه فيذروه في البر والبحر، ففعلوا، وقد أمرهم بذلك لأنه خاف من الله، فأراد أن يهرب بهذا الطريق، فكان الأمر على الله في غاية السهولة، فأمر الله الأرض أن تجمع ما فيها، فجمعت الأرض ذرات هذا الإنسان وأتت به لربها سبحانه، وقال للبحر: هات ما فيك، فأتى البحر بما فيه، فجمع الله هذا الإنسان، وأحياه لينطق ويواجه ربه سبحانه وتعالى، فسأله: لماذا فعلت هذا؟ فإنك لا تقدر أن تعجز الله سبحانه وتعالى، فالله يعلم كل شيء، ويحفظ كل شيء، ولا يغيب عنه شيء.
فعلى الإنسان أن يراقب ربه سبحانه، ويعلم أنه سوف يحاسبه، فلينظر بماذا سيرد على الله عز وجل فيما قال وفيما عمل، فإن الله لطيف في قضائه وقدره، خبير في علمه وتقديره سبحانه وتعالى.