[التوكل على الله من صفات المؤمنين]
قال تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى:٣٦] فالمؤمنون يتوكلون على الله عز وجل، ويعلمون أن الله خالقهم، وأن الله رازقهم، وأنه مدبر أمرهم، وأنه هو الذي يملك كل شيء، ولذلك كان التوكل على الله أمراً واجباً، قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:٢٣] فالمؤمن يكل أمره كله إلى الله، ويقول: الذي يملك النفع ويملك الضر هو الله سبحانه وتعالى، والذي يملك الرزق هو الله سبحانه وتعالى.
إذاً: أنا أتوكل عليه، وأفوض أمري إليه، وأوجه وجهي إليه سبحانه وتعالى، جعلت ربي وكيلي، أنا لا أقدر والله يقدر على كل شيء، فهو الذي يقوم بتدبير أموري ومصالحي، والذي يقدرني على كل شيء، هذا هو التوكل على الله، فأنت حين توكل المحامي ليتكلم بالنيابة عنك توكله لأنك لا تستطيع أن تتكلم، ومع ذلك فأنت تعطيه أجرة على توكيلك له، فالإنسان يوكل إنساناً فيما لا يقدر هو أن يقوم به، فوكيل الإنسان نائب عنه؛ لأنه فوض إليه هذا الأمر أن يقوم به لعدم استطاعته أو لعدم تخصصه.
فالإنسان حين يوكل غيره يوكله لأنه محتاج إليه، ولله عز وجل المثل الأعلى، فهو وكيلك سبحانه يدبر كل شيء، ويعطيك اليد التي تبطش بها، والعين التي تنظر بها، ويدلك على الخير فتفعل هذا الخير، وينزل عليك الرزق من السماء فتأخذ أنت هذا الرزق، ويقدرك على أن تأخذه، وعلى أن تأكله وتشربه، وعلى أن تستطعم به، وعلى أن تهضمه وتخرجه، فهو وكيلك سبحانه وتعالى في كل شيء، وهو الذي يقدرك على الخير سبحانه وتعالى، وهو الذي يعطيك، ولذلك عندما تقوم من النوم قل كما كان يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور).
فهو الذي أحيانا بعد ما أماتنا في هذا النوم، وتحركنا بعد ما كنا هامدين على الفراش، وتحركت أعضاؤنا وقمنا نواصل أعمالنا، فالذي له الفضل هو الله وحده لا شريك له، والذي يتوكل على الله ليس كلاماً يقوله، وإنما ثقة في قلبه أن الله قادر على كل شيء.
إن الله أمره للشيء كن فيكون، فإذا توكلت على الله فاملأ قلبك بالإيمان والثقة به سبحانه، فهو القادر على كل شيء، فتخرج إلى عملك وتطلب الرزق وفي قلبك الثقة في الله ولسان حالك: سيرزقني وسيعطيني الله سبحانه وتعالى، فالله أعظم وأكرم.
فليمتلئ قلبك بالثقة به سبحانه وتعالى، وكن عند حسن الظن بالله سبحانه، أحسن الظن بالله وأحسن العمل يكن الله عز وجل عند حسن ظنك، فهو الذي يقول: (أنا عند ظن عبدي بي) ويقول النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً).
لو أنكم تتوكلون على الله حق التوكل، فهي ليست كلمة تقال باللسان، فإن الطير خرج ثقة في الله عز وجل، وبحث عن الرزق فوجد الرزق وأعطاه الله عز وجل، خرج وهو خامص بطنه فرجع وبطنه مليء بالطعام ويطعم فراخه كذلك، ولو أنكم تتوكلون على الله وتثقون في الله عز وجل أعظم الثقة لأعطاكم الله عز وجل ما تريدون منه، ولزادكم من فضله سبحانه وتعالى.
ولولا ثقة المؤمنين في ربهم سبحانه وتعالى في يوم بدر لما انتصروا على جيش المشركين الذي يبلغ تعداده ألف مقاتل، خاصة وأن عدد المسلمين في هذه الغزوة ثلاثمائة رجل فقط، إذ كانوا لا يريدون قتالاً ولكنهم خرجوا من أجل قافلة لقريش، ولم يستعدوا للقتال، لكن أهل مكة تجهزوا بألف أو يزيدون مستعدين للقتال.
والنبي صلى الله عليه وسلم يرى الأمر على ذلك، فهو كله ثقة في الله عز وجل ولكن يريد أن يسمع من أصحابه، هل الثقة في قلوبهم أم لا؟ فيقول: (أشيروا علي أيها القوم)، قريش جاءت، أشيروا علي أيها القوم! فالمهاجرون قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (اغد على بركة الله)، لكنه لم يرد المهاجرين، وإنما كان يريد الأنصار، فقال سيد الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: (لعلك تريدنا يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، فقال الرجل: يا رسول الله! أوصل حبال من شئت واقطع حبال من شئت، وسر حيث شئت وقف حيث شئت، فوالله لو خضت بنا البحر لخضناه معك).
ففرح النبي صلى الله عليه وسلم، وبشرهم بالنصر، وأخذ يريهم مصارع القوم، هنا يقتل أبو جهل، هنا يقتل فلان، هنا يقتل فلان، يشير قبل القتال، ثقة في الله سبحانه وتعالى، ووحي من الله سبحانه وتعالى.
وبدأ القتال، وقاتل المسلمون قتالاً عظيماً، ولولا التوكل على الله سبحانه لما انتصر هؤلاء، فقتل أبو جهل، فرعون هذه الأمة، فقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم أبا جهل، ووصفه بأنه فرعون هذه الأمة، ويروي لنا عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة قصة حدثت في يوم بدر يقول: إنه كان عن يمينه غلام وعن يساره غلام صغيران في السن يقاتلان، فهؤلاء مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا رجالاً وكانوا أبطالاً، قال: وجدت غلاماً عن يميني وغلاماً عن يساري فوددت لو أني بين أشد منهما، يقصد معاذ ومعوذ ابني عفراء، يقول أحدهما له: يا عمي! تعرف أبا جهل؟ قال: نعم أعرفه، قال: إذا رأيته فدلني عليه، قال: ولم؟ قال: قد أقسمت لو رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يكون الأعجل منا قتيلاً، أي: لا أفارقه حتى أقتله، أو أموت شهيداً رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فقال الآخر: يا عمي! تعرف أبا جهل؟ فيعجب من هذا، وإذا بـ أبي جهل يخرج مثل الحرجة، والحرجة: الغابة الكثيفة، فقال عبد الرحمن بن عوف: ذاك صاحبكما، وأشار إليه، وإذا بهما ينطلقان إليه، وفعلا ما قالاه، فهذا يضربه من هنا وهذا يضربه من هنا، حتى جندلاه على الأرض وأوقعاه، وذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كل منهما يقول: أنا قتلته يا رسول الله! فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم وفرح بهما وقال لأحدهما: (أرني سيفك، أرني سيفك، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم على آثار سيفيهما الدم قال: كلاكما قتله).
وإذا بـ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو يقاتل يجد أبا جهل على الأرض، فذهب إليه وضربه بالسيف، يضرب أبا جهل بسيفه فلا يؤثر فيه.
فقال له عبد الله بن مسعود: قد أخزاك الله وأبعدك يا عدو الله، فقال أبو جهل: أبعد من رجل قتله قومه، فيضربه بالسيف فلا يؤثر فيه، فقال أبو جهل: خذ سيفي فاضربني به، فيأخذ سيفه ويحز به رقبته ويقتله، ويذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول له: هذا رأس أبي جهل، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا فرعون هذه الأمة)، ويأمر به وبأمثاله أن يدفنوا في قليب بدر، بئر من الآبار دفنوا فيها.
والغرض: ما الذي نصر المؤمنين في هذه الموقعة؟ فهذه صورة رجل من الكفار هو أبو جهل، وهذا ابن مسعود يضربه بالسيف لا يؤثر فيه، وهذا غلام صغير وهذا غلام صغير، وعبد الرحمن بن عوف يتمنى لو أنه بين أقوى منهما، هل مثل هذا الجيش بتقدير العقل يغلب وينتصر؟ في تقدير العقل يقول: لا يمكن ذلك أبداً، ولكن الأمر ليس أمر العقل، الأمر أمر الله الذي يمن على المؤمنين فيقول: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:١٧]، {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:٢٣].
فلما يتوكل المؤمنون على الله ويعلمون أن الله هو الذي ينصرهم، وأنه هو الذي يعزهم ويقويهم، ويهلك أعداءهم، يأتي النصر من الله سبحانه، فأعدوا العدة وثقوا في الله عز وجل وتوكلوا على الله سبحانه، وإذا انعكس الأمر وظن المؤمن أنه هو الذي يغلب العدو وهو الذي يقاتل العدو فإن الله سبحانه قال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:٢٥].
فتح المؤمنون مكة في العام الثامن من الهجرة في رمضان، وعفا النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة، ودخل من أهل مكة جيشان مع جيش النبي صلى الله عليه وسلم أسلموا، وتوجهوا إلى الطائف إلى هوازن للقتال هناك، وتحصن أهل الطائف من النبي صلى الله عليه وسلم، ووقف أهل هوازن للنبي صلى الله عليه وسلم على جبلين، والمسلمون ذهبوا إلى هنالك فرحين بالنصر الذي فات، وكثيرون منهم شباب، وكثيرون منهم من قريش دخلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومن أهل مكة، فلما رأوا أن فتح مكة كان سهلاً أخذهم الغرور، فلم يأخذوا عدتهم للقتال ولم يلبسوا دروعاً وذهبوا يقاتلون بهذه الصورة، واغتروا بعددهم فقد كان عددهم اثني عشر ألفاً، فذهبوا إلى هنالك، وانتظرهم المشركون فوق الجبال، وبالسهام والرماح كادوا يقضون عليهم، وفر الجيش كله، ويثبت النبي صلى الله عليه وسلم ويثبت معه أصحابه الأفاضل أبو بكر وعمر وغيرهم، ويثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم آل بيته رضوان الله تبارك عليهم.
فيقوم النبي صلى الله عليه وسلم في ثمانين من أصحابه، إذ لم يثبت من أصحابه إلا ثمانون من اثني عشر ألفاً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فسيد المتوكلين صلوات الله وسلامه عليه يقف في موطن يفر فيه المؤمنون الشجعان، ويفر فيه الأنصار والمهاجرون، ويقف النبي صلى الله عليه وسلم للكفار، ويتقدم عليهم صلى الله عليه وسلم ويقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) صلوات الله وسلامه عليه.
وإذا به يتقدم إليهم، لولا أن العباس كان يحوش بغلة النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يتقدم