للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (لقد حق القول على أكثرهم)]

قال الله سبحانه: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} [يس:٧]، يعني: على أكثر هؤلاء الكفار حقت كلمة العذاب؛ لأنهم لا يؤمنون، ولا يدخلون في دين الله عز وجل فيستحقون العقوبة.

والله سبحانه خلق العباد منهم كافر ومنهم مؤمن، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:٢]، العباد مخلوقون وقد علم الله عز وجل أن فريقاً منهم إلى الجنة، وفريقاً منهم إلى السعير.

والله كتب عنده مقادير كل شيء، قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:٢٩]، وأعطى العباد في هذه الدنيا عقولاً يفكرون بها، فعقل الإنسان يميز بين الجيد والرديء، وبين الطيب والخبيث، وبين الكفر والإيمان.

والإنسان يكتسب الشيء، ويكتسب الحسنة والسيئة، ولكن في النهاية: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:٢٩]، فالله عز وجل يقدر ما يشاء، وبعلمه وبحكمته سبحانه وبقدرته يكون كل شيء على ما يريده سبحانه وتعالى.

فأخبر سبحانه أن هؤلاء سيكون الأغلبية منهم كفاراً يستحقون عقوبته وهذا قضاء الله وقدره سبحانه، ولا حجة لهذا الإنسان إن دخل النار؛ لأنه حينما يكتسب المعصية يستشعر في نفسه أنه قادر على الفعل، وقادر على الترك، فهو يملك القدرة والاختيار، لكنه لا يشاء شيئاً إلا وقد شاءه الله سبحانه وتعالى.

ولذلك القضاء والقدر سر الله في خلقه، وقد أمرنا أن نؤمن به، ولم يطلب منا مناقشته وفهم كل شيء فيه؛ لأنها من أمور الإيمان، ومن أمور الغيب التي رتبها الله سبحانه وتعالى.

فلابد أن تؤمن أن الله على كل شيء قدير، وأنه لا يحدث شيء في خلقه إلا بعلمه وحكمه وحكمته سبحانه وتعالى.

إذاً: أمر القضاء والقدر أصل من أصول الإيمان، فالإيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره).

إذاً: القدر غيب، ولا يطلع الله سبحانه وتعالى أحداً على قدره، إلا أن يكون ملكاً من الملائكة اختصه الله عز وجل بشيء، أو يكون نبياً أو رسولاً، كما أعلم الخضر عن أشياء كما في سورة الكهف، لكن أن يعلم الإنسان علم القدر، ويحيط بما أراد الله سبحانه وتعالى فليس للإنسان ذلك.

وقال الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:٢٩].

إذاً: لك مشيئة، ولن تغلب مشيئتك مشيئة الله سبحانه وتعالى، فمشيئة الله محيطة بكل شيء سبحانه، وهو الذي شاء أن يكون لك مشيئة، وأن يكون لك إرادة، وجعل لك اختياراً، وبين لك أن هذا خير وهذا شر، فابتعد عن الشر، وخذ الخير.

إن الله سبحانه وتعالى هو الذي أعلمك ذلك، وعلم الله علماً سابقاً أنك ستترك هذا وتأخذ هذا، وكتب عنده أنك تكون من أهل النار أو من أهل الجنة، ولكن لم يطلعك على هذا الشيء، إنما أمرك أن تعمل وتختار ما شئت، وسيحاسبك سبحانه على اختيارك؛ ولذلك يوم القيامة يقول الله سبحانه لأهل النار: ادخلوا النار جزاء بما كنتم تعملون، ولا يقول: أنا قدرت ذلك، أو علمت أنكم ستكونون من أصحاب النار فادخلوها.

ولذلك عندما يتحاج الضعفاء مع المستكبرين وهم بين يدي رب العالمين، يقول الضعفاء: {هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف:٣٨]، ولا يقولون: يا رب أنت كتبت علينا الضلال.

فيقول الله سبحانه وتعالى: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:٣٨]، وما الذي جعلكم تتبعونهم؟ ألم يكن عندكم عقول تفكرون بها؟ ألم يكن بين يديكم كتاب رب العالمين؟ وكان عندكم رسل رب العالمين يدعونكم إلى الله؟ إذاً: أمر القضاء والقدر سر من أسرار الله سبحانه، أمرنا أن نؤمن به، وأمرنا أن نؤمن أنه خالق كل شيء، خلق العباد وأفعالهم، وأنه له مشيئة عامة يحيط بكل شيء، وجعل لعباده مشيئة يختارون بها، وعلم الله عز وجل من عباده من يستحق النار وهو مخلوق لها، ومن يستحق الجنة فهو من أهلها، وأمرنا بالإيمان بذلك.

إذاً: الله عز وجل كتب عنده أن هؤلاء في النار، فلن يهتدوا أبداً، وما كتبه الله لن يبدل، يدخلون النار بأعمالهم، وباكتسابهم، وقد علم الله وشاء ذلك سبحانه وتعالى.

قال تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:٧]، أي: مكتوبون عند الله من أهل الشقاوة وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها).

إذاً: الكتاب الذي عند الله سبحانه لم يطلعنا الله عليه، بل جعل ذلك غيباً عنده، وقال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، ولما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، لم يناقشهم النبي صلى الله عليه وسلم في القضاء والقدر؛ لأنه ليس محل مناقشة، إنما القضاء والقدر محل إيمان قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:٣]، فالله غيب، والجنة غيب، والنار غيب، والساعة غيب، والقضاء والقدر غيب.

فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نؤمن بذلك، فقال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، فليس المطلوب منكم المناقشة في أمر القضاء والقدر، إنما المطلوب أن تؤمنوا به، فالإنسان يقول: قدر الله وما شاء فعل، ثم يعمل، ويجد نفسه مختاراً للشيء الذي يريده، ولا أحد يجبره على أن يمد يده على شيء فيأخذه أو يجبره أن يتركه؛ لأنه في كامل قدرته يستشعر أنه قادر على هذا الشيء.

وهنا يكون التكليف، وهنا يسألك الله عز وجل لماذا أخذت؟ ولماذا تركت؟ لأنك قادر على العمل.

<<  <  ج:
ص:  >  >>