[تفسير قوله تعالى: (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت)]
قال تعالى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} [الأحزاب:١٦].
فكر أيها الإنسان أنك إذا فررت من القتال وقد حذرك الله عز وجل من ذلك أن ذلك من الكبائر، قال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:١٦].
والفرار من القتال من الكبائر، فلا تفر إذا قاتلت، ولكن واجه ودافع عن دين الله سبحانه تبارك وتعالى، واطلب إحدى الحسنيين: إما النصر وإما الشهادة.
ومن الثلاثة الذين يحبهم الله سبحانه تبارك وتعالى ويضحك إليهم سبحانه تبارك وتعالى ويثيبهم الثواب العظيم: رجل قابل الكفار فلم يفر، أي: توجه إلى الكفار وقاتلهم حتى نصره الله أو حتى قتل شهيداً، هذا أحد الثلاثة الذين يحبهم الله سبحانه تبارك وتعالى.
فيقول الله تعالى لهؤلاء الفرار: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب:١٦] أي: ستفر من أين؟ فكر في هذا الموت الذي تفر منه، فالموت آت ومقدور ومعلوم، فأن تموت شهيداً أفضل لك من أن تموت وأنت على معصية الله سبحانه تبارك وتعالى.
فلو تفكر الإنسان أنه إذا قتل شهيداً، فإنه لا يستشعر بألم القتل أو ألم الذبح أو ألم الإصابة، والصحابة كانوا يقاتلون في سبيل الله ويقول أحدهم: والله ما شعرنا بألم القتال، أي: ألم الجروح وغيرها من ضرب بالسيف وغير ذلك، والواحد منهم كانت تقطع يده في القتال، وتكون متعلقة في كتفه، فيضع يده تحت رجله على الأرض ويتمطى عليها، ثم ينزعها من كتفه من أجل أن يكمل القتال ولا يستشعر بشيء، فهؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الذين يحسون ويشعرون بألم الدواء، فإن ذلك كان بعد انتهاء القتال تماماً، فعندما يضعون الدواء أو العلاج فإنهم يحسون بألم الدواء، لكن في القتال لا يحسون بشيء، فإنهم قاتلوا في سبيل الله سبحانه، وأخلصوا لله عز وجل، فأعانهم الله وثبتهم، فما كان أحدهم يشعر بشيء.
والنبي صلى الله عليه وسلم يذكر لنا في الشهيد أنه لا يشعر إلا بمثل القرصة، والله عز وجل يطمئنه فيغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى منزله من الجنة، ويرى الحور العين، ويزوج باثنتين وسبعين منهن، ويتوج بتاج الكرامة، ويلبس حلة الكرامة، وعندما تخرج روحه فإنه ينظر الكرامة التي أمامه، ويقيه الله من عذاب القبر وفتنته.
فالذي يمزق بدنه في سبيل الله أو يقتل شهيداً، لا يحس بشيء، وعكسه الذي يموت على فراشه، أو كان قد أكل وشرب واستراح ثم بعد ذلك قبضت روحه، فألم الموت أشد من ألم السيوف، حتى المؤمن فإنه يموت بعرق الجبين، فيشتد على المؤمن التقي في خروج روحه، ويشعر بألم شديد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعاني كرباً عظيماً في حال وفاته، ولذلك فإن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: ما غبطت أحداً مات بغير ذلك.
يعني بعدما رأت من النبي صلى الله عليه وسلم.
فالذي يموت على فراشه فإن الله سبحانه تبارك وتعالى يشدد عليه ليرفع درجته، والشهيد قد ارتفعت درجته فلا يحتاج لهذا الشيء، فلا يشدد عليه، وإنما يرى المنزلة من الجنة ويرى الحور العين، ويعطى من فضل الله سبحانه تبارك وتعالى ومن رحمته.
فلو تفكر الإنسان لتمنى أن يكون شهيداً، وأجر الشهادة يعطى لمن تمناها وسألها من الله سبحانه تبارك وتعالى بإخلاص.
قال تعالى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} [الأحزاب:١٦] فإذا فر الإنسان من الموت، أو من القتل، فإنه سيأتي عليه الموت، أو مكتوب عليه أنه سيقتل.
فلو أنه كان مكتوباً عليه أنه سيقتل في سبيل الله سبحانه، وهو مقدم مقبل على الأعداء، سيضربه العدو ويقتله.
فلو أنه فر سيأتيه سهم من غرب، أي: من ورائه فيقتله، فأيهما أفضل أن يأتيه السهم من أمامه وهو مكر على الأعداء أو وهو فار من الأعداء؟ فيقول الله عز وجل لعبده: إذا كان مكتوباً عليك أن تموت في هذا الحين فلن ينفع الفرار.
وبفرض أنكم ما استطعتم أن تفروا، وهذا فرض جدلي وليس حقيقياً، قال سبحانه: {وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:١٦] أي: حتى لو فررتم من هذا الشيء، وتمتعتم بهذه الحياة الدنيا، فإنها متعة قليلة ثم بعدها الموت.