[تفسير قوله تعالى: (اليوم نختم على أفواههم)]
قال تعالى: {نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:٦٥].
حضروا الموقف أمام رب العالمين، فلما سألهم أجابوا {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:٤٢]، ومن حاول أن يكتم الله حديثاً أنطق عليه أعضاءه فاعترفت عليه يوم القيامة.
{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} [يس:٦٥]، وجاء في صحيح مسلم من حديث أنس: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، فقال: هل تدرون مم أضحك؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه يوم القيامة، يقول: يا رب! ألم تجرني من الظلم؟)، انظروا العبد يوم القيامة، ما زال يجادل ربه: يا رب! ألست حرمت الظلم على نفسك، وأنت أجرت من الظلم عبادك؟ فيقول الله سبحانه: (بلى، فيقول هذا العبد الحقير: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني)، يقول: لا أريد ملائكة تشهد علي، أنا أشهد على نفسي، يظن أن ذلك ينفعه.
قال: (فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، فيختم على فِيه، فيقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام)، شهدت عليك أعضاؤك بما عملت في الدنيا، فيقول يدعو على نفسه: (بعداً لكن وسحقاً، فعنكن كنت أناضل) يعني: كان يدافع عن نفسه، عن أعضائه التي أوبقته وشهدت عليه، ضحك النبي صلى الله عليه وسلم على هذا العبد المغرور الأحمق الذي يظن أنه يخدع رب العالمين سبحانه وتعالى يوم القيامة.
وفي رواية أخرى لهذا الحديث: (ثم يقال له: الآن نبعث شاهدنا عليك)، وهو يتفكر في نفسه: من ذا الذي يشهد علي؟! العبد يوم القيامة يقول لله: لا أريد أحداً يشهد علي إلا نفسي، قال: (فيختم على فِيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي، فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك ليعذر من نفسه)، أنت الذي قلت على نفسك، وأنت الذي اعترفت على نفسك، وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط الله عليه، يقول هذا الشيء من أجل أن يأخذ عذاباً فوق العذاب؛ لكفره في الدنيا وكذبه في الآخرة.
وروى الترمذي عن معاوية بن حيدة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار تجاه الشام، فقال: من هاهنا تحشرون، ومن هاهنا إلى هاهنا تحشرون، ركباناً ومشاة، وتجرون على وجوهكم يوم القيامة على أفواهكم الفدام).
يحشرون يوم القيامة، إنسان يقوم من قبره فيحشر ماشياً، إنسان يحشر راكباً يوم القيامة، إنسان يحشر على وجهه، ويجرجر على وجهه، قال النبي صلى الله عليه وسلم -والحديث حسن-: (وتجرون على وجوهكم يوم القيامة على أفواهكم الفدام)، الفدام: مصفاة من قماش توضع فوق الكوز بحيث يصفي الشراب الذي فيه، المعنى: توضع كمامة على أفواهكم فلا ينطق أحدكم.
(توفون سبعين أمة، أنتم خيرهم وأكرمهم على الله، وإن أول ما يعرب عن أحدكم فخذه وكفه)، أول ما ينطق من الإنسان ويشهد عليه فخذه وكفه.
هنا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن أول ما ينطق من الإنسان فخذه فيتحدث ماذا عمل، وينطق عليه جلده وعظامه، ويده، وفي النهاية فمه يتكلم فيدعو على نفسه بالهلاك كما ذكرنا.
يقول الله عز وجل: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} [يس:٦٥] تنطق الأيدي، {وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} [يس:٦٥]، وهذا من التفنن في القرآن العظيم، لم يقل: تكلمنا أيديهم وتكلمنا أرجلهم، ولكن ذكر أن كل عضو ينطق ويتكلم، ففصل فذكر أن الأيدي تتكلم، والأرجل تشهد، كأنه أقامها مقام الشاهد؛ لأن الإنسان غالباً ما يصنع أفعاله بيده، فكأن اليد بعيدة عن الرجل، والرجل شاهدة على اليد بما فعلته، وعلى الفم بما قاله، فذكر الفخذ وذكر الرجل؛ لأنها شاهدة عليه.
{وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} [يس:٦٥] ضربت فلاناً، أخذت مال فلان، سفكت دم فلان، والرجل تشهد على هذا الإنسان وعلى هذه اليد بما صنعت: {وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:٦٥]، بما اجترحوا في هذه الدنيا، بما أصابت جوارحهم فيها، تشهد هذه الأيدي وتتكلم، وتشهد الأرجل بما كانوا يكسبون.
{وَلَوْ نَشَاءُ} [يس:٦٦]، لو يشاء الله سبحانه وتعالى، لطمس على أعينهم في الدنيا، وإن فسرت بأنه في الآخرة، ولكن الأوجه أنها في الدنيا، فهذا تهديد ووعيد من الله سبحانه وتعالى.
{وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا} [يس:٦٦]، والطمس: إزالة الأثر، تقول: طمست الريح الأثر، بمعنى: أزالت الأثر، {عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} [يس:٦٦]، الصراط الطريق، وفيه من القراءات ما ذكرنا قبل ذلك، {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} [يس:٦٦].
والمعنى: لو شئنا لطمسنا على أعينهم وقتما كفروا ووقتما عصوا الله تبارك وتعالى، وفي المكان الذي مارسوا فيه الرذيلة، لو أردنا كنا عميناهم في هذا المكان، ثم يرجعون يتحسسون بيوتهم فلا يرون شيئاً في الطريق، {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} [يس:٦٦] أي: طريق رجوعهم إلى بيوتهم، فلا يعرفون كيف يهتدون إلى بيوتهم، لو نشاء لعجلنا لهم العقوبة في الدنيا، {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} [يس:٦٦].
الجمهور يقرأها: (الصراط) بالصاد، وسيقرؤها قنبل وورش بخلف: (السراط) بالسين، وسيقرؤها حمزة بخلف خلاد لأن قبلها ألف ولام، وهنا سيدخل خلاد مع خلف فيها، ولكن بخلف يقرؤها بإشمام الصاد زاياً: (الزراط).
{فَأَنَّى} [يس:٦٦] كيف، {يُبْصِرُونَ} [يس:٦٦].
وهذه (أنى) يفتحها الجمهور: (أنَّى).
وبخلفه الأزرق عن ورش وكذلك الدوري عن أبي عمرو ويقرأ: (فأنى) بالتقليل فيها.
ويقرؤها الكوفيون غير عاصم بالإمالة فيها: (فأنِّى يبصرون).
وأنى بمعنى: كيف يبصرون ويهتدون الطريق ليرجعوا إلى بيوتهم وقد أعميناهم؟! {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} [يس:٦٧]، المكانة: المكان الذي يزاولون فيه معصيتهم ويمكثون فيه، لو أردنا كنا مسخناهم قردة وخنازير، وقد فعل بالبعض من عباده، ولو شاء لفعل بهؤلاء أيضاً من كفار قريش.
{وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} [يس:٦٧] هذه قراءة الجمهور.
وقراءة شعبة عن عاصم: (على مكاناتهم) بالجمع فيها.
{فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ} [يس:٦٧]، كنا مسخناهم قردة وخنازير، أو جعلناهم جمادات صوراً وتماثيل، فما قدروا لا مضياً للأمام ولا رجوعاً إلى الخلف، ولكننا أخرنا عنهم العذاب؛ لعل بعضهم يتوب، ويوم القيامة يجدون من عذاب الله سبحانه أهوالاً وأهوالاً.