[تفسير قوله تعالى: (فجاءته أحداهما تمشي على استحياء)]
{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:٢٥]، قوله تعالى: (فجاءته) الفاء تفيد الترتيب والتعقيب، فكأنه دعا فحصلت النتيجة حالاً من فضل الله سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:٢٥] فيه أدب المشي للنساء، وأن المرأة تمشي في جانب الطريق لا في منتصفه ولا تمشي بحركات ملفتة للنظر كما تفعل نساء اليوم؛ لكنها تمشي على استحياء في طريقها، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أي تستر وجهها وهي تأتي في الطريق لتنادي موسى عليه الصلاة والسلام.
{قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:٢٥] أي: أبي يدعوك ليعطيك أجر سقيك لنا.
فذهب معها موسى عليه الصلاة والسلام لا طالباً للأجر، إذ ليس الأنبياء بالذين يأخذون أجراً على عمل يسدونه إلى الناس، ولكن لجيب إنساناً يدعوه، فليذهب لينظر ما المراد من دعوته له.
وذكروا أن المرأة كانت تمشي أمام موسى عليه الصلاة والسلام في الطريق لتدله عليها، فجاءت الرياح فصفقت ثوبها، فكأنه استحيا أن ينظر إليها فقال: كوني من ورائي ودليني بصوتك على الطريق.
ففعلت ذلك حتى وصل موسى إلى الرجل فلما جاءه وقص عليه القصص، {قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:٢٥].
وهنا لم يذكر من هو هذا الرجل، وإن كان أكثر المفسرين على أنه النبي شعيب عليه الصلاة والسلام.
وقالوا: إن موسى عليه الصلاة والسلام نبي تربى في بيت فرعون فترة طويلة في عزة ومال ورفاهية، فلا بد أن يتأدب قليلاً ليتعلم كيف يصبر على شظف العيش، ويصبر على الفقر ويصبر على العمل ويربي الغنم، وما من نبي إلا عوده ربه على ذلك حتى يتعود على تربية الناس بعد ذلك.
فهنا موسى عليه الصلاة والسلام انتقل إلى بيت هذا الرجل، والنبي لا يتعلم إلا من نبي، لذلك قالوا: إنه شعيب عليه الصلاة والسلام.
لكن بعض المفسرين يرى أنه ليس شعيباً، فقالوا: بين موسى وشعيب فترة طويلة، واحتجوا بالآية التي في سورة هود أن شعيباً قال لقومه: {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود:٨٩].
قالوا: ولوط ابن أخ إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهلاك قوم لوط كان في حياة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وبين إبراهيم وبين موسى حوالي أربعمائة سنة، ولا يمكن أن يعيش شعيب أربعمائة سنة، فقوله: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود:٨٩] يعني أنهم رأوا الذي حصل لقوم لوط، أو كانوا قريبي العهد بهم، فتكون سنوات قليلة بين شعيب وقومه، وبين قوم لوط، وتكون الفترة بين شعيب وبين موسى فترة طويلة تزيد على ثلاثمائة سنة.
ولكننا نقول: ما المانع أن يعمر الله سبحانه شعيباً هذه المدة كما عمر نوحاً ألف سنة.
قالوا: لكن أهل الكتاب في كتبهم لم يسموه شعيباً وإنما سموه (ثيرون)، قالوا: فهذا الاسم غير اسم سيدنا شعيب عليه الصلاة والسلام.
قالوا: فهذا يدل على أنه ليس شعيباً عليه السلام قبله.
وأجيب بأنه قد يكون قريباً لشعيب، فيبقى البيت بيت نبوة منه رجل صالح قريب لشعيب وإن لم يكن شعيباً.
قالوا: لو كان شعيباً لكان حرياً أن يذكره القرآن باسمه، ونحن نقف على ما قاله الله سبحانه إنه رجل، والله أعلم.
فالرجل قال لموسى عليه الصلاة والسلام: {نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:٢٥] ثم طلب منه أن يكون أجيراً عنده على ما يأتي بعد ذلك إن شاء الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.