[معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور)]
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور) فقد احتجب الله عن خلقه وهم أهل سمواته وأرضه بحجاب من النور سبحانه وتعالى، والله عز وجل أخبر عن نفسه أنه نور سبحانه وتعالى، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قيام الليل: (اللهم لك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن) أي: منور السموات والأرض، فالله عز وجل نور السموات والأرض، كما ذكر لنا في هذه الآية، وكما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى، وأيضاً جاء في القرآن قول الله سبحانه: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر:٦٩].
ويوم القيامة لا شمس فيه ولا قمر ولا نجوم ولا كواكب، والذي يضيء ويشرق في الأرض ويجعلها منيرة يوم القيامة هو نور الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر:٦٩].
وجاء في صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق خلقه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره -سبحانه وتعالى- فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل) فرجعت الهداية إلى نور الله سبحانه وتعالى، فإنه خلق الخلق وجعلهم في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره سبحانه، فمن أصابه من هذا النور جاءه الهدى من الله عز وجل، ومن لم يصبه من نور الله عز وجل كان من الأشقياء.
وأيضاً جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، فنور السموات من نور وجهه سبحانه وتعالى.
فالله نور السموات والأرض ومنورهما وهادي أهل السموات وأهل الأرض.
والله عز وجل ذكر آيات في غض البصر قبل قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:٣٥]، ثم بعد ذلك ذكر الله عز وجل أمر المساجد فقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:٣٦].
فالمراد بالنور: الطاعة، أي نور غض البصر، فمن كف نفسه عن المعصية أورثه الله عز وجل في قلبه نوراً، ومن أتى إلى بيوت الله عز وجل وعمرها بطاعة الله جعل الله عز وجل في قلبه نوراً، فالبعد عن المحارم يورث في القلب النور، والاشتغال بالطاعة يجعل في القلب النور، فالله عز وجل يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله، فإن غض بصره عما حرم الله سبحانه عوضه عليه من جنسه بما هو خير، فجعل الله مكانه نوراً في قلبه يرى به الأشياء على حقيقتها، فيطلق نور بصيرته، ويفتح عليه أبواب العلم والمعرفة والفراسة من فضله سبحانه.
ومن فائدة غض بصر الإنسان والبعد عن المعاصي: قوة القلب، فالله عز وجل يقوي قلب الإنسان ويثبته ويشجعه، ويجعل الله عز وجل له سلطاناً من عنده ينصره به مع سلطان حجته، ولهذا قالوا: إن الإنسان العاصي يوجد في قلبه من الذل ما لا يستشعره إلا هو، أما الإنسان الطائع فإنه يستشعر في قلبه عز الطاعة.
وذل المعصية جاء من ظلمتها، فإذا به لا يبصر الشيء على حقيقته.
يقول الحسن البصري رحمه الله: إنهم وإن هملجت بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال، فإن ذل المعصية في رقابهم، يأبى الله إلا أن يذل من عصاه.
فالإنسان وإن ركب المراكب العالية الفخمة: فسارت به السيارات، وطارت به الطائرات، وركب السفن، ومشى مختالاً في الأرض، فالله يأبى عز وجل إلا أن يجعل في قلبه الذل والحاجة إليه سبحانه وتعالى.
قال الله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:٣٥].
فالله نورٌ سبحانه وتعالى، وهو منور السموات والأرض، وهادي أهل السموات والأرض، وهو سبحانه حجابه النور، ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة المعراج: (هل رأيت ربك؟ قال: نوراً أنى أره) أي: أنه لا يطيق أن يرى ربه سبحانه تبارك؛ لأنه لم يعط من القوة أن يرى الله عز وجل كما يعطى ذلك المؤمنون فيرونه في يوم القيامة، وأما في المعراج فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ير ببصره إلا نوراً، وأما أن يصف ربه سبحانه فلا يقدر على ذلك صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله تعالى: ((مَثَلُ نُورِهِ)) ليس هذا هو النور الذي هو حقيقته سبحانه وتعالى، ولكن النور الذي يضرب له المثال هو نور هدايته في قلب الإنسان المؤمن، فإن الله عز وجل يقذف في قلب المؤمن نوراً شديداً قوياً كهذا النور الذي يصفه سبحانه وتعالى، فمثل نوره في قلب المؤمن كمشكاة فيها مصباح، والمشكاة هي الكوة، وهي طاقة في الحائط غير نافذة، وأصل المشكاة هو الدلو من الجلد، أو العلبة المفتوحة من مكان وحد فقط.
وهذه المشكاة بداخلها مصباح، وفتيل هذا المصباح موضوع في داخل زجاجة، والزجاجة غاية في الإنارة والإضاءة كالكوكب الدري الشديد الإضاءة، وهذه المشكاة موجهة للضوء إلى مكان واحد مثل اللمبة التي يوضع عليها عاكس، فإنه يوجه النور ويكون قوياً موجهاً إلى مكان، فالعلبة المفتوحة من طرف واحد يكون ذلك أقوى للإضاءة، وبداخل هذه المشكاة مصباح، وفتيل هذا المصباح داخل الزجاجة، والزجاجة كالكوكب المنير المضيء، فكيف إذا اتقد هذا الفتيل بداخلها؟! وقوله تعالى: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور:٣٥].
فهذا المصباح له زيت يوقده، وهذا الزيت يستخرج من شجرة الزيتون، وزيت الزيتون يعطي إنارة عظيمة، وهو زيت مبارك، كما سيأتي في أحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى، وهذه الآية تكفي في الدلالة على ذلك.
والشجرة إذا كانت شرقية يكون فيها فوائد، فإنها تأتيها الشمس من المشرق فتعطيها نوعاً من التطييب لها، وإذا كانت غربية ففيها نوع أخر، وإذا كانت وسطاً كانت أفضل أنواع أشجار الزيتون، فهي شجرة وسط لا شرقية ولا غربية، والزيت الذي فيها يكاد يضيء وحده من غير ما يوضع فيه نار، فكيف إذا وضع بداخله النار! فهذا كله لبيان النور الذي في قلب الإنسان المؤمن، فكيف يكون إذا كان في قلبه هذا النور الشديد العظيم؟ وهل يقع هذا في معصية؟ وهل يضل ويتوه عن طاعة الله سبحانه؟ كلا.
قال الله سبحانه: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:٣٥] أي: نور فوقه نور، فهو أنوار مجتمعة بقلب الإنسان الذي يتبع هدى الله سبحانه وتعالى، {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:٣٥]، وأمر الهدى والإضلال يرجعان إلى الله، فالله يهدي من يشاء ويضل من يشاء سبحانه وتعالى، ويضرب الأمثال بذلك لعل الناس يتذكرون.
هذا هو التفسير الإجمالي للآية، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.