للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تعظيم الله لمكة]

يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول لقومه: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النمل:٩١]، والكلام مناسب للحال الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ولسياق الآيات العظيمة في آخر هذه السورة.

وفي الآية خطاب من الله لنبيه أن يقول للكفار: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} [النمل:٩١]، أي: أن هذه البلدة التي تريدون أن تثبتوني أو تقتلوني أو تخرجوني منها ليست ببلدكم، ولستم تملكونها، ولكن الأرض أرض الله سبحانه وتعالى.

فهو الذي حرمها وجعلها حرماً آمناً تتنعمون فيها، وفي ذلك إشارة إلى ظلم هؤلاء، إذ أن مكة بلدة جعلها الله سبحانه في وسط الأرض، وحرمها سبحانه وتعالى وجعل المعصية فيها حراماً، فحرم فيها القتل والقتال، وأنعم عليكم بهذه النعمة وجعلكم في أمان ممن حولكم من العرب وغيرهم.

ثم إذا منَّ الله عليكم بها وأمنكم فيها تريدون أن تطردوني منها، وتريدون أن تخرجوني، أو تقتلوني، وتعملون على أن تفزعوا المؤمنين؟! فاذكروا يوم العرض على الله عز وجل -يوم الفزع الأكبر-، واذكروا أن الله أمركم بعبادته، وأمركم أن تشكروه على نعمته عليكم سبحانه.

قال: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} [النمل:٩١]، فالله هو رب كل شيء سبحانه، وذكر الله البلدة تعظيماً لها وتخصيصاً لها، ثم ذكر أن له كل شيء، فالله ليس رب هذه البلدة وحدها، بل هو رب كل شيء سبحانه، وهو المالك المدبر للأمر.

وعبر سبحانه بقوله: {رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} [النمل:٩١]، وفيه: التنويه بعظيم شأن مكة التي حرمها الله عز وجل، والله لا يحرم شيئاً إلا لتعظيمه، أو لتحقيره، فحرم هذه البلدة تعظيماً لها، وحرم الميتة والدم ولحم الخنزير تحقيراً له، وهنا البلدة التي عظمها الله سبحانه فحرمها، قال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:٦٧].

وهذه نعمة من الله سبحانه على أهل مكة، إذ أن العرب في جاهليتهم كانوا لا يعرفون إلا السلب والنهب والخطف والقتل ويأكل بعضهم بعضاً، فيأكل القوي فيها الضعيف، ويقتل بعضهم بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً، وكل ذلك يجري في القرى التي حولهم حتى إذا ما أتوا على مكة كفوا عن ذلك كله، إذ أن مكة حرمها الله سبحانه قدراً وشرعاً، فجعلها بلدة محرمة، وكلهم يدخلون إليها حجاجاً ومعتمرين، كما أنهم يعرفون فضل أهلها، حتى إن أهلها ليستكبرون على الغير ويمنعونهم من الطواف إلا في ثياب أهل مكة، ويعجب المرء حينما يرى أهل مكة وقد أنعم الله عليهم بتحريم هذه البلدة فإذا أهلها يستكبرون على غيرهم، بل وصل بهم الترفع على غيرهم أن يمنعوا غير المكي من الطواف بثيابه التي يقدم بها من بلده؛ لأنها بزعمهم ثياب عصي الله فيها، فإما أن يشتروا الثياب من مكة، وإما أن يطوفوا عرايا، وإما أن يستعيروا ثياباً للطواف من أهل مكة، ويستوي في ذلك الرجال والنساء.

وبرغم أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بتعظيم هذه البلدة وتعظيم دين رب العالمين وأمرهم بعبادته، إلا أنهم تطاولوا عليه صلى الله عليه وسلم، فأخبرهم أنه أمر أن يعبد الرب الذي خلقه، وخلق هذه البلدة، وخلق كل شيء، وهو المالك لكل شيء.

<<  <  ج:
ص:  >  >>