تفسير قوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين)
قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:٣١]، (ذلك) اسم إشارة، (وكذلك) تشبيه بالمشار إليه، أي: كذلك جعلنا قبلك كمثل هؤلاء، فجعلنا مع كل نبي أعداء، وجعلنا لكل نبي مجرمين يعادونه، ويتركون ما جاءهم به من شريعة.
فإذاً: الذي فعل بك ليس شيئاً جديداً، بل إن سنة الأنبياء من قبلك والرسل عليهم الصلاة والسلام أن قومهم يكذبونهم، ويتخذون ما جاءهم من عند ربهم مهجوراً، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ} [الفرقان:٣١]، والنبي أعم من الرسول، فالأنبياء كثيرون، والرسل هم الأقل، فإذا قال: (لكل نبي)، فيدخل فيه الرسل كذلك، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ} [الفرقان:٣١]، كل القراء يقرءونها (نبي) ما عدا نافع، فإنه يقرؤها (نبيء) بالهمز.
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:٣١]، فالله يخلق ما يشاء، ويفعل ما يريد سبحانه وتعالى، وكان قادراً على أن يلهم الناس بأن يوحدوا الله سبحانه، وأن يصدقوا الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ولكن مشيئة الله قضت أن يوجد المصدق والمكذب، شاء الله عز وجل ذلك، وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:٣١]، فالله هو الذي يهدي، وكذلك الله هو الذي يضل، قال تعالى: {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم:٤] سبحانه وتعالى.
قوله: {وَكَفَى بِرَبِّكَ} [الفرقان:٣١]، يكفي أن الله عز وجل هو الذي يقدر وحده على أن يهدي هؤلاء، وعلى أن يضلهم، وعلى أن ينصرك ويخذل أعداءك {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:٣١]، والمعنى: لا تبالي بعداوة من يعاديك، فإنهم لا يملكون لك شيئاً، وإن الله ناصرك، وقد وعده سبحانه وصدق في وعده، فقال: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:٦٧]، فعصمه ربه سبحانه وتعالى حتى بلغ هذه الرسالة العظيمة.
فإذاً: الإنسان المؤمن عندما يتلو هذه الآية: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:٣٠]، يخاف على نفسه أن يدخل تحت هؤلاء، وأن يكون قد هجر كتاب رب العالمين، لذلك لا بد من متابعة قراءة القرآن، وحفظ القرآن ليل نهار، فيراجع ما حفظه من القرآن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن: (إنه أشد تفلتاً من البعير في عقالها)، فالجمل يتفلت بسرعة إن لم يربطه صاحبه بالعقل، وكذلك هذا القرآن العزيز، فأنت تحتاج إليه وهو ليس محتاجاً إليك، فالله عز وجل يقول: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت:٤١]، فتأمل هذه اللفظة العظيمة التي وصف بها نفسه سبحانه الله العزيز الغالب القاهر فوق عباده الذي لا يغالب، والذي لا يمانع، فلم يقدر أحد أن يمنع شيئاً يريده الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:٢]، فهو العزيز سبحانه وتعالى الذي يفعل ما يريد، ويحكم ما يشاء سبحانه وتعالى، وكتابه كتاب عزيز منيع الجانب، لا يقدر أحد على أن يحرف كتاب رب العالمين، وقد حاول الكفار طيلة ألف وأربعمائة سنة أن يحرفوا أو يبدلوا، أو يزعزعوا ويذبذبوا المؤمنين في كتاب ربهم فما قدروا على ذلك، وما استطاعوا إليه سبيلاً.
فالقرآن كتاب عزيز، فهو كتاب رب العالمين، المؤمن يحفظه، والله عز وجل يكون معه، ويملأ قلبه نوراً، والإنسان الذي تركه وهجره فإنه يجد ظلمة في قلبه، ويجد نفسه قريبة من المعاصي؛ فيضيع نفسه بترك هذا النور العظيم من عند رب العالمين؛ لذلك احرص على كتاب ربك سبحانه، فكتاب الله فيه الشريعة العظيمة، وفيه الهدى والنور، من تمسك به فإن نهايته إلى الجنة، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (القرآن شافع مشفع، وماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله وراءه ساقه إلى النار)، القرآن شافع عظيم يشفع للعبد يوم القيامة، وماحل مصدق، فيأتي ليجادل أشد الجدل عند الله سبحانه وتعالى عن صاحبه الذي عمل به حتى يأمر الله عز وجل بصاحبه إلى الجنة.
ولا يزال يجادل ويدافع كالمحامي الشديد الدفاع عن موكله، وكذلك القرآن يوم القيامة يدافع عن صاحبه أشد المدافعة، حتى ينزع صاحبه.
فهذا القرآن ماحل مجادل عظيم الجدل عن صاحبه، مدافع عظيم الدفاع عن صاحبه يوم القيامة، فهو ماحل مصدق، والذي يدافع في الدنيا قد يصدق وقد يكذب، لكن القرآن كتاب رب العالمين لا يوجد كلام غير هذا مصدق يوم القيامة للدفاع عن صاحبه.
والإنسان الذي يجعل القرآن إمامه يقوده إلى الجنة، والقائد دائماً في الأمام، فالذي يجعل القرآن أمامه فإنه يأخذ بيده، ويقوده إلى الجنة حتى يدخلها، فمن جعله وراءه كأنه جعله سائقاً وراءه يدفعه إلى النار والعياذ بالله! لذلك اجعل القرآن دائماً نصب عينيك، واحفظ كتاب الله، وتدبر ما فيه، كما قال ربنا: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:٢٤]، {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:٨٢]، فالقرآن كتاب من عند رب العالمين، طرفه بيد الله سبحانه، وطرفه الآخر بيدك أنت، فتمسك بهذا القرآن ليقودك إلى ربك، إلى جنة الله كما جاء في حديث النبي صلوات الله وسلامه عليه.
لذلك احرصوا على حفظ القرآن قبل تعلم الفقه والعقيدة والأصول، احفظ كتاب رب العالمين سبحانه، فهذا شيء عظيم جداً، فالقرآن كل حرف منه بعشر حسنات، وكل كلمة من هذا القرآن فيها أجر عظيم، وكل آية يرفعك الله عز وجل بها درجة يوم القيامة، فتكون فوق كثير من خلق الله عز وجل يوم القيامة.
القرآن إذا حفظه الإنسان يحلى والداه بتاج الإيمان يوم القيامة، وتاج الوقار، يحليان من حلي الجنة، تاج لا يقوم لنوره أحد، فكيف بصاحب القرآن يوم القيامة؟! فاحرصوا عليه ولا تتخذوه وراءكم مهجوراً: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:٣٠]، هجروه فلم ينظروا فيه، ولم يتأملوه، وحاجوا النبي صلى الله عليه وسلم وأرادوا أن يبطلوا ما جاء من عند رب العالمين.
فإذاً: كفروا وكذبوا به، ثم الهجر بعد ذلك بحسبه، فهجر الإنسان العاصي يكون بترك أحكام الله عز وجل، وهجر الإنسان المسلم لكتاب ربه ألا يواظب على حفظه، وإذا حفظ منه شيئاً نسي هذا الذي يحفظه، ولا يحاول أن يراجع ما يحفظه من كتاب الله، فتكون المصاحف في البيوت معلقة للزينة، ويتركها الإنسان لا يحفظ منها شيئاً ولا يعمل بها.