[هلع المنافقين وخوفهم من القتال]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا * وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:٢٠ - ٢٢].
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات من سورة الأحزاب وما قبلها الفرق بين المؤمنين وبين المنافقين، كيف صنع المنافقون في يوم الأحزاب من تخذيلهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كذبهم عليه وعلى المؤمنين، ومن ظنهم السوء بربهم سبحانه وتعالى، وكيف صنع المؤمنون من تصديقهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وحسن ظنهم في الله سبحانه، وإن كان الأمر شديداً عليهم، ولكن كل إنسان يبتليه الله سبحانه وتعالى بحسب ما في قلبه من إيمان.
فابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً، واضطربوا وظنوا أن النصر تأخر شيئاً، ولكن هم واثقون في الله سبحانه بأنه لن يخذل رسوله صلوات الله وسلامه عليه.
أما المنافقون فأساءوا الظن بالله سبحانه، وكذبوا على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقالوا: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:١٢] أي: إلا محالاً وباطلاً.
فهؤلاء المنافقون فضحهم الله سبحانه، وبين أنهم المعوقون للمؤمنين عن القتال، والصادون للمؤمنين عن جهادهم في سبيل الله سبحانه وتعالى، الذين يقولون لإخوانهم في النسب أو لأصحابهم: {هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:١٨] فهم من أجبن الناس ويرمون غيرهم بالجبن، فقد قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه: إنهم من أجبن الناس عند اللقاء، وإنهم من أجوع الناس بطوناً، ويقولون عنهم: إنما هم أكلة رأس، يعني: عددهم قليل، فلقلتهم يكفيهم الرأس من الغنم.
فهؤلاء المنافقون يقولون لإخوانهم: هلم إلينا، أي: دعوا النبي صلى الله عليه وسلم وتعالوا فاجلسوا معنا وكلوا، {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:١٨] (البأس) أي: القتال.
قوله: (أشحة عليكم) أي: هم من أبخل الناس وأشح الناس، فالبخيل: هو الذي يضن بما في يده وبما في يد غيره، لم يكتف بما في يده، فهو شحيح ضنين على المال الذي معه وعلى المال الذي مع غيره، فهو شحيح مقتر لا يبذل.
فقوله: ((أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ)) يعني: يرفضون لكم الخير، ويرفضون منكم إنفاقاً في سبيل الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ} [الأحزاب:١٩] أي: إذا جاء القتال، {رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب:١٩] هذا حالهم، كالإنسان الذي يرى الموت أمامه مرعوب يهتز ويرتعش، هذا حال هؤلاء المنافقين.
فإذا انتهى هذا الخوف إذا بهم يتشجعون ويظهرون الشجاعة، ويقولون: عملنا وعملنا، انظروا نحن لو كنا موجودين كنا عملنا كذا، وهم أجبن خلق الله.
يذكر سبحانه هؤلاء المنافقين بقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:٤] هذا حال هؤلاء المجرمين المنافقين، تجدهم طوال الأجسام عراضها، أشكالهم ومناظرهم جميلة، كذلك تأخذ منهم كلاماً كأن مقتضاه الحكمة، وهو في الحقيقة خلاف ذلك.
وقال سبحانه: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:٤] الخشب يستفاد منه في صناعة الأبواب وسقافة البيوت، لكن إذا كان الخشب مسنداً إلى الجدران فليس فيه أي فائدة، وإنما يحصل منه ضيق على الناس، فهذا هو حال هؤلاء، كأنهم خشب غير منتفع به، ولكن خشب مسنود على الجدران.
يذكر الله سبحانه صفات المنافقين، ويبين أنهم في غاية الخوف والرعب والجبن إذا جاء الأعداء، يقول تعالى: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب:١٩] أي: ألسنتهم لاذعة حادة، يتكلمون كلاماً سيئاً عن المؤمنين، بل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (سلقوكم) أي: أيرفعوا أصواتهم بالقول، وكانوا في حال الخوف في غاية الجبن، لكن بعد أن غادر الأعداء رفعوا أصواتهم على المؤمنين، فهم ليسوا أشحة في الإنفاق لما في أيديهم فقط، بل هم لا يحبون من المؤمنين الإيمان، ولا يحبون للمؤمنين النصر على الأعداء، ولا يحبون خيراً يأتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا للمؤمنين.
ثم قال: {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا} [الأحزاب:١٩] أي: أولئك يزعمون الإيمان بألسنتهم، أما القلوب فهي خالية من الإيمان، والنتيجة تكون كما قال الله: {فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} [الأحزاب:١٩] هم يستحقون ذلك؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فهم وإن صلوا معكم ظاهراً، لو استطاعوا أن يتركوا الصلاة لتركوها، ولذلك لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى، فهم لولا خوفهم من أن النبي صلى الله عليه وسلم يعاقبهم، لما صلوا مع الناس الجماعة، ولتركوا الصلاة بالكلية.
إذاً: هم يفعلون الخير في الظاهر أمام الناس، وهم في الحقيقة إنما يفعلون ذلك رياء وسمعة أمام الناس، فاستحقوا أن يفضحهم الله سبحانه، وأن يحبط أعمالهم، قال تعالى عن الكافرين: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:٢٣].
أي: جعلناه هباءً كالغبار الذي يرى في الكوة التي تدخل منها الشمس، فكذلك أعمالهم لا وزن لها عند الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب:١٩] يعني: الأمر كله يسير على الله سبحانه، فكونهم يؤمنون أو يكفرون كل هذا يسير على الله سبحانه، وكذلك كونه سبحانه يحبط أعمالهم هذا يسير على الله؛ لأنه سبحانه، {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢].