[تفسير قوله تعالى: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب)]
ذكر الله الجبال وما يحل بها يوم القيامة فقال: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:٨٨]، كما قال سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:١٠٥ - ١٠٧].
فهذه الجبال الراسيات العظيمات ينسفها الله ويدمرها ويجعلها هباءً منثوراً، وذرات متناثرة، فإذا بها مسواة بالأرض، فالجبل الذي كان على الأرض راسخاً، يطير كالسحاب، ثم تذروه الرياح، أو يصيره على هيئة الرمال والتراب فوق الأرض، فإذا الأرض بلا مرتفعات ولا منخفضات.
قال الله سبحانه: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً}، قال ابن عباس: أي قائمة وهي تسير سيراً حثيثاً.
وقد ذكر الله في القرآن أن الجبال يوم القيامة تكون على حالات: الحالة الأولى: دك الأرض والجبال، قال الله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:٢١ - ٢٢]، فتزلزل الأرض وتندك الجبال، وتتواضع لربها سبحانه وتعالى، وهذه حالة من أحوالها.
الحالة الثانية: أخبر سبحانه وتعالى عن الجبال أنها تكون كالعهن المنفوش، والعهن هو الصوف، والمنفوش: المنتفش، كانت ثقيلة يوماً من الأيام، وفي يوم القيامة صارت خفيفة كالعهن المنفوش.
الحالة الثالثة: أخبر الله سبحانه وتعالى أن الجبال يوم القيامة تنسف، قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا} [طه:١٠٥ - ١٠٦]، والقاع: الأرض المنبسطة.
الحالة الرابعة: قال الله تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} [النبأ:٢٠]، أي: كان موضعها كالسراب، والسراب ما يراه الإنسان أمامه في اليوم الشديد الحر في الأرض المنبسطة يحسبه ماءً، فإذا وصل إليه لم يجده ماء، ووجده أرضاً كغيره من الأرض، كذلك الجبال سيرت يوم القيامة، وحركت من مكانها فصار مكانها كالسراب، فالناظر إليها يظنها واقفة جامدة، والله يسيرها ويدمرها حتى تتطاير ثم تنزل على الأرض هباءً ورمالاً، فتستوي بها الأرض، قال سبحانه: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} [النمل:٨٨].
وقوله: ((تَحْسَبُهَا جَامِدَةً))، فيها قراءتان: الأولى: بفتح السين في (تحسبها)، وهي قراءة عاصم، وابن عامر وأبي جعفر، وباقي القراء نافع وابن كثير وأبي عمرو ويعقوب والكسائي وخلف يقرءون: (تحسِبُهَا جامدة) بكسر السين.
وقوله: (صنع الله) أي: هذا الصنع البديع، المتمثل في الجبال الراسيات التي يجعلها يوم القيامة تسير، ثم يصيرها كالعهن المنفوش، ويدمرها فيجعلها قاعاً صفصفاً، هذا الصنع صنع الله وحده لا شريك له، لا يقدر عليه أحد سواه.
وكأن الله يقول: انظروا إلى صنع الله سبحانه، فصنع: منصوب على الإغراء، والمقصود: الزموا التفكر في هذا الصنع العظيم، أو أنه مفعول مطلق لفعل محذوف، والتقدير: صنعه صنعاً.
قوله: ((الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ))، أي: خلق كل شيء في غاية الإتقان والدقة وعلى أفضل ما يكون، وكلمة (الإتقان) أصلها: من أتقن، وقالوا: إن أصل هذه الكلمة عربية قديمة من أيام عاد، تنسب إلى رجل اسمه: ابن تقن، كان غاية في تسديد الرماح والسهام، لا يخطئ أبداً، فإذا رمى السهم لا بد وأن يصيب الهدف، فكان يضرب به المثل في ذلك، فكانوا يضربون به المثل في الإتقان، ويقولون للرامي العظيم: أرمى من ابن تقن، أي: فلان أرمى منه.
فالمحسن في عمله يسمى: متقن، نسبة إلى ابن تقن، فصارت الكلمة بعد ذلك دليلاً على الإصابة والسداد والإحسان في العمل، فمن أتقن عمله صار كهذا الذي كان يرمي فيصيب في رميه.
فالإتقان: إحسان العمل، ولذلك قال الله: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}، وأمر الله عز وجل عباده أيضاً أن يحسنوا، فقال: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:٧٧]، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإتقان الأعمال كذلك، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو يعلى عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)، فيحب الله من الإنسان أن يتقن عمله، سواء كان عملاً دينياً أو دنيوياً ينبني عليه تحصيل رزق أو غيره.
وقول الله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:٨٨]، فيه أنه أتقن خلق الإنسان، كما قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة:٧].
قال تعالى: {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل:٨٨]، الخبير من الخبرة وهي دقة العلم، أو العلم الدقيق، فهو عالم خبير لطيف بعباده سبحانه وتعالى.