تفسير قوله تعالى:(فاستفتهم أهم أشد خلقاً أم من خلقنا)
قال الله سبحانه تبارك وتعالى:{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا}[الصافات:١١] يعني: اسألهم.
وقراءة الجمهور:{فَاسْتَفْتِهِمْ}[الصافات:١١] وقراءة ورش عن يعقوب: (فاستفتهُم).
قوله تعالى:{أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا}[الصافات:١١] أي: من أقوى، هل هم هؤلاء الإنس، الذين هم ضعفاء في الحقيقة، أم من خلقنا؟ وقال الله عز وجل:{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}[النازعات:٢٧ - ٣٣]، من أشد خلقاً أنتم أم هذه السماء وما فيها من نجوم؟ فهل تستطيعون أن تصعدوا إلى السماء؟ وهل تستطيعون أن تغيروا مسار كوكب من الكواكب التي أراد الله عز وجل أن يسيرها على هذا المسار المحدد؟ كذلك هنا يقول: فاستفتِ هؤلاء المجرمين، أي: اسألهم هؤلاء الكذابين {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ}[الصافات:١١].
وقد خلق الله عز وجل السماوات وأحكم خلقها سبحانه وتعالى، واعترف الكفار واعترف الخلق بقوة هذه السماء وشدتها، وكذلك الأرض وكذلك الجبال، فقال سبحانه:{إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ}[الصافات:١١] هؤلاء الضعفاء {مِنْ طِينٍ لازِبٍ}[الصافات:١١] اللزوب بمعنى: اللصوق، أي: طين لاصق، تراب عليه ماء، فعندما تضع يدك عليه يلصق الطين فيها، فالإنسان خلق من صلصال، هذا الصلصال له صلصلة من ماء آسن منتن متغير، فالإنسان مخلوق من طين، {مِنْ طِينٍ لازِبٍ}[الصافات:١١] أي: يلصق بعضه ببعض، والكفار كما في هذه الآية أعجبتهم قوتهم، وقالوا عن أنفسهم أنهم قادرون على أشياء كثيرة، وما كان ذلك إلا غباء من هؤلاء الكفار؛ ولذلك يقول الله تعالى عن هذا الإنسان:{أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا * أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[البلد:٥ - ١٠].
أليس الله أعطاه ذلك؟! وبعد ذلك يتكبر على خالقه سبحانه وتعالى! قال تعالى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ}[البلد:٤ - ٥]، هذه الآية نزلت في رجل من الكفار، كان معجباً بقوته وعضلاته، وكان يرى نفسه أنه قادر على أي حال، واسمه أبو الأشدين، رجل من الكفار أعطاه الله عز وجل قوة، يتكبر بها على غيره، قالوا: كان هذا الرجل شديد البطش، شديد القوة، وهو رجل من بني جمح أبو الأشدين الجمحي، وكانوا يأتونه بالأديم العكاظي، وهي قطعة من جلد شديدة يقف عليها هذا الإنسان، ولفرط قوته وجبروته يقول لهم: شدوها من تحت رجلي، فيشدونها من تحت رجليه فلا يستطيعون، فيتمزق هذا الأديم! فيتعجب من قوته، فصار هذا الإنسان يستكبر على الخلق، ويستكبر على الخالق سبحانه وتعالى، ونزل فيه قوله سبحانه وتعالى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ}[البلد:٤ - ٥]، يقول كاذباً:{يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا}[البلد:٦]، يقول محدثاً الناس: أنا أنفقت في عداوة محمد صلوات الله وسلامه عليه مالاً عظيماً وهو كذاب في ذلك، فالله أعطاه قوة، وأعطاه مالاً، وهذا الرجل لما أنزل الله سبحانه وتعالى:{عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}[المدثر:٣٠]، إذا بهذا الرجل ومثله أبو جهل لعنة الله عليهما يقولان: تسعة عشر! فيقولون أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، اسمعوا من ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر وأنتم الدهم العدد، لا تقدرون عليهم فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم؟! أي: طالما هم تسعة عشر ملكاً على النار ألا يستطيع كل عشرة منكم أن يمسكوا ملكاً من الملائكة ويحبسوه ويمنعوه فلا ندخل النار، يقول ذلك وهو يعلم في نفسه أنه كذاب هو وأمثاله، لما كانوا يسيرون في الصحراء ويظهر لهم جني من الجن يزعجهم فيخافون ويرتعبون ويرجعون ويقولون: نعوذ برب هذا الوادي، يخافون من الجن، ويخافون من الشياطين، ومع ذلك يظهرون هذا الاستكبار وأنهم يقدرون على ملائكة الله سبحانه وتعالى! ويقول أبو الأسود بن كلدة الجمحي: لا يهولنكم تسعة عشر، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة وبالأيسر تسعة! وهذا إنسان أحمق غبي لا يفكر فيما يقول، لكن الحقيقة أنهم يتسلون بكفرهم الذي هم فيه.
وفي رواية أخرى يقول: أنا أكفيكم سبعة عشر واكفوني اثنين، أنا عليّ سبعة عشر ملكاً آخذهم وأمنعهم وأنتم عليكم اثنين.
وقال أبو جهل: أفيعجز كل مائة منكم أن يبطشوا بواحد منهم ثم تخرجون من النار؟ فأنزل الله عز وجل:{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا}[المدثر:٣١]، نفتنهم بذلك حتى يقولوا ما لا يعلمون، يقولون: إنهم يمتنعون من دخول النار، وأحدهم يقول: أنا أضع يديّ على النار وأمنع دخول الناس فيها، ونعمل الذي نريده على هذه الدنيا.