للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم وهو العزيز الحكيم)]

الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الله عز وجل في سورة فاطر: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ * الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر:٢ - ٨].

يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات عن رحمته العظيمة التي يفتحها لمن يشاء من خلقه، ولا يقدر أحد على ردها أو على إمساكها، فقال: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ} [فاطر:٢]، فمن ذا الذي يمسك رحمة الله إن فتحها لأحد من خلقه؟! وكذلك إن أمسك سبحانه تبارك وتعالى عن الخلق شيئاً وحجزه ومنعه، من الذي يستطيع أن يرسله بعد الله سبحانه؟! لا إله إلا هو سبحانه، فهو العزيز الحكيم، والغالب القاهر الذي إذا قضى شيئاً لا يقدر أحد أن يمنعه، وهو الحكيم، يقدر ما يشاء وقت ما يشاء سبحانه.

ثم يقول الله سبحانه للناس جميعهم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [فاطر:٣].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [فاطر:٣]، ففي الخطاب المكي دائماً ينادي: يا أيها الناس! فالقليل من أهل مكة هم المؤمنون، والكثير منهم مشركون، فيجمع بندائه جميع الناس، بخلاف الخطاب المدني أن فالعادة في الخطاب المدني يقول: يا أيها الذين آمنوا؛ لأن الأكثر في المدينة هم المؤمنون.

{اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ} [فاطر:٣]، أي: اذكر ولا تنسى هذه النعمة ولا تسكت عنها، ولا تكتمها، وقل للخلق: قد أنعم الله عز وجل علينا بنعم عظيمة.

ولفظ: نعمة جنس، ولذلك لم يجمعها، فلم يقل: نعمات، فإذا جاء الجنس دخل فيه الواحد والاثنان والجمع والقليل والكثير.

فإذا قال: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ} [فاطر:٣]، أي: جميع النعم العظيمة من الله عز وجل التي أنعم بها على خلقه، فكل نعمة أنعم الله عز وجل بها على أحد من خلقه داخلة تحت هذه اللفظة، فاذكروا كيف أعطاكم السمع والبصر والفؤاد، وكيف أعطاكم اليد والرجل وأعطاكم العقل والعمل، والرزق، وخلق لكم السماوات، والأرضين والجبال، وأرسل الرياح، فاذكروا هذه النعم تعرفوا من الذي خلقها ومن الذي أنعم بها عليكم، فهو جدير أن تعبدوه وأن تشكروه وحده لا شريك له.

(ونعمة)، كتبت في أكثر المصاحف بالتاء، فإذا وقفت عليها فتقف بالتاء، والجمهور على ذلك.

ولكن ابن كثير وكذلك أبا عمرو ويعقوب البصريين، والكسائي يقرءونها بالهاء فيقولون: (اذكروا نعمة).

{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر:٣]، {غَيْرُ} [فاطر:٣]، بالضم وهذه قراءة الجمهور، أما قراءة أبي جعفر وحمزة والكسائي وخلف: (هل من خالق غيِرِ الله يرزقكم من السماء والأرض)، بالكسر على أنها وصف لما قبلها، والأصل في خالق، أنه مرفوع.

{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [فاطر:٣]،

و

الجواب

لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو سأل هؤلاء الكفار من الذي خلقكم؟ يقولون: الله، ولو لم ينطقوا هذا، فقد شهد الله عليهم أنهم يقرون بذلك في قلوبهم ويقرون أن الله وحده هو الذي يخلق، وأنه وحده هو الذي يرزق وأنه وحده الذي ينعم سبحانه تبارك وتعالى.

{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [فاطر:٣]، أي: هل يوجد أحد آخر غير الله يرزقكم من السماء فيفتح عليكم البركات من السماء وينزل عليكم من السماء ماء فيسقيكم ويطعمكم ويرزقكم ويخرج لكم الثمرات من الأرض فيطعمكم؟ والجوب: لا خالق غير الله سبحانه وتعالى، فالمشركون يعرفون هذا الجواب؛ لأنهم لم يشركوا في ربوبيته سبحانه، فلا أحد من المشركين يقول: إن الرب اثنان ولكنهم يقرون بتوحيد الربوبية وأن الرب واحد، فقد جاء عمران بن حصين عندما كان كافراً، إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كم تعبد اليوم يا حصين؟! قال: سبعة، واحد في السماء وستة في الأرض، فقال: من الذي ترجوه لنفعك وضرك؟ قال: الذي في السماء)، فهو الذي يرجوه لنفعه وضره وهو الذي يخلق ويرزق ويعطي ويحيي ويميت وينفع ويضر، ويعبدون هذه الآلهة، بسبب: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:٣]، فالشيطان زين لهم هذا الكلام الذي لا قيمة له، ولا معنى له، وقالوا: نحن أحقر من أن نعبد الله مباشرة، يقولون هذا كذباً وبهتاناً وزوراً، فيفترون على الله الكذب، ويعبدون غير الله سبحانه وتعالى، فيقول الله عز وجل مجيباً: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:١٦٣] يعني لا يستحق العبادة إلا هو، فلا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى.

قال تعالى: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر:٣]، الإفك بمعنى: الصرف: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر:٣] أي: فكيف تصرفون عن توحيده سبحانه، و (أنى يؤفكون) من الإفك وهو الافتراء وكيف يفترون عليه سبحانه تبارك وتعالى فيصرفهم كذبهم عن الله سبحانه تبارك وتعالى؟ فإذاً كيف صرفوا عن توحيد الله سبحانه، هل هؤلاء لهم عقول، وهل هم ينظرون ويتفكرون ويعقلون؟ إنهم لا يعقلون، فلو كانوا يعقلون لعبدوا الله وحده لا شريك له، فانظر وتعجب كيف صرفوا عن توحيد الله وقد عرفوا أنه هو الرب وحده، فعبدوا غير الله تبارك وتعالى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>