[تفسير قوله تعالى:(وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج)]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الله عز وجل في سورة فاطر: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}[فاطر:١٢ - ١٤].
يذكر لنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات بعضاً من عظيم آياته في هذا الكون لنتدبر فيها، وكيف أن الله خلقها وسخرها لنفع عباده، وكيف أفادهم من هذه الأشياء.
{وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ}[فاطر:١٢]، وقال في سورة الرحمن:{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:١٩ - ٢١]، أي: فبأي نعم الله سبحانه تكذبان؟! والبحر نعمة عظيمة للعباد، فمنه ما هو:{عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ}[فاطر:١٢]، ومنه الملح الأجاج، أي: شديد الملوحة، {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}[فاطر:١٢]، وسخر البحر كذلك:{لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[الروم:٤٦].
وانظر إلى البحار والمحيطات التي تحيط بهذا الكون، فإنها تغمر أكثر سطح الأرض، ومع ذلك فقد جعل الله عز وجل للعباد رزقاً فيها، فالبحر مالح والمحيط أشد ملوحة منه، وماء عذب فرات يجري في الأنهار أو في العيون، وهذه نعم من الله سبحانه وتعالى على العباد، فهم يشربون من المياه العذبة الفرات التي خلقها الله عز وجل لهم، ويأكلون طعاماً من البحر ومن النهر ومن المحيط، ويستخرجون حلياً يلبسونه ليشكروا نعمة الله سبحانه.
((لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ))، أفلا تشكرون نعم الله عز وجل عليكم؟ {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ}[فاطر:١٢]، أي: لا يستوي ماء البحر المالح وماء البحر العذب، {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ}[فاطر:١٢] أي: شديد العذوبة تشربونه وتستسيغونه، كماء النهر، ومياه العيون والآبار، فهي مياه عذبة تشربونها وتستسيغونها، والفرات بمعنى: الحلو، سائغ شرابه، أي: أن الإنسان يقدر على ازدراده وابتلاعه، ومنه قولهم: أساغ اللقمة بالماء إذا أراد أن تنزل من حلقه بعد أن علقت به، أما الماء المالح فلا يقوى على استساغته، ولا يستطيع بلعه.
وانظر إلى شراب أهل النار، فقد ذكر الله عز وجل عنهم أن شرابهم الصديد في النار، وأنهم لا يستطيعون استساغته، فقال:{يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ}[إبراهيم:١٧]، أي: لا يقدر أن يبتلعه، وكيف يبتلعه وهو من النار والعياذ بالله، ولكن الماء الفرات البارد من نعم الله عز وجل على عباده، والتي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وقد أكلوا تمراً أو بلحاً وشربوا ماءً عذباً:(هذا من النعيم الذي تسألون عليه).
والأجاج: هو الشديد الملوحة، وأيضاً: يطلق على مر المذاق، وكأنه يريد منك أن تقارن بين هذا وذاك، ومع ذلك جعل الله عز وجل لهذا مخلوقات تعيش فيه وتستسيغه، فهناك أسماك معينة للبحر العذب، وهناك أسماك معينة للبحر المالح.