كذلك كان عمر يأخذ بالشورى رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان يستشير القراء وحفاظ القرآن، ولو نظرت إلى هذا الزمان لوجدت أن حفاظ القرآن لا أحد يهتم بهم، لكن في أيام النبي صلى الله عليه وسلم كان حافظ القرآن له أهمية كبيرة جداً، كما ذكرنا في الحديث السابق أنهم كانوا يحفظون القرآن عشر آيات عشر آيات، ولا ينتقل أحدهم من العشر الأولى حتى يتقنها ويعلم معناها، ويعلم ما فيها من أحكام ويعمل بها، فكان إذا حفظ القرآن أصبح عالماً بالأحكام، عاملاً بالقرآن، عالماً من العلماء، أما الآن فلا نقدر أن نقول: إن حافظ القرآن عالم أو فقيه أو كذا؛ لأن ذاك يحفظ القرآن، وذاك يحفظ الحديث، وذاك يتعلم الفقه، وهكذا، لكن كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا توجد هذه التفرقة، فقد كان حافظ القرآن إماماً وعالماً؛ لذلك كان عمر رضي الله عنه أهل شوراه هم حفاظ القرآن، ليس كما في هذا الزمان الذي أصبح من أهل الشورى الممثلون والرقاصون والكتاب والمخادعون والمنافقون والصحفيون؛ بل الذي يعرف دين الله وينصح لله سبحانه وتعالى هؤلاء هم أهل الشورى.
فأهل شورى عمر رضي الله عنه هم القراء وحفاظ القرآن والعلماء بكتاب الله عز وجل وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان عمر يستشير هؤلاء الحفاظ، وكان إذا استشارهم ووصلوا إلى أمر أخذ بما يقولون رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وأهل مجلس عمر رضي الله عنه كانوا كهولاً، والكهل: الذي جاوز أربعين سنة، أو شباناً وهم دون ذلك وكذلك المشيخة، وذكر أنه كان في مجلس شورى عمر بعض الناس الذين لهم مودة مع عمر رضي الله عنه، فأتى إلى هذا الرجل عمه، وقال: يا ابن أخي! ألك كلام مع هذا الأمير؟ فقال: نعم.
قال: فدلني عليه، كأنه يقول: توسط عنده من أجل أن أكلمه فرضي الله عنه، فأخذه وذهب به إلى عمر رضي الله عنه، وهو لا يعرف ما الذي سيقوله عمه لـ عمر رضي الله عنه، فلما جلس الرجل وعمه قال عم الرجل لـ عمر رضي الله عنه: هيه يا عمر! والله ما تعطي الجزل، ولا تحكم بالعدل.
فقام له عمر بالدرة ليضربه، فإذا بابن أخيه يقول: يا أمير المؤمنين! إن الله عز وجل يأمر بالعدل ويقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[الأعراف:١٩٩]، وإن هذا من الجاهلين، فأنقذ عمه بذلك، فالله سبحانه وتعالى يأمرنا بالعدل وأن نحكم به، فكان عمر يحكم بالعدل، قال راوي الحديث: وكان عمر وقافاً عند كتاب الله، فقد كان الرجل ذكياً حين أتاه بهذه الآية، وذكره بأنه يحكم بالعدل، فعلى ذلك لا يضره ما يقول هذا الإنسان، فلما قال:(وأعرض عن الجاهلين) وهذا جاهل، سكت عمر وذهب فوراً غضبه رضي الله تبارك وتعالى عنه، وسكت عن هذا الرجل، هذا ما ذكر الإمام البخاري في صحيحه من الشورى.