للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (إن الله يمسك السماوات والأرض)]

قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [فاطر:٤١]، هذه آية من آيات الله سبحانه وتعالى، وما أعظم آيات الله سبحانه فعلى المؤمن أن ينظر في هذه الآيات وأن يتدبر {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر:٤١]، أما الصنم الذي يعبده هؤلاء فهل يمسك السماوات؟ أو يمسك الأرض؟ وهل يصنع شيئاً؟ إذاً: الصنم لا يتصرف في هذا الكون {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:٢٢]، فهم يزعمون أن الأصنام آلهة وها هي تزول وتتكسر وتذهب ومع ذلك تظل الدنيا باقية على ما هي عليه، لم يتغير مجيء الشمس من مشرقها يوماً لأجل أنه كسر صنم، فكيف تعبدونها من دون الله وهي لا تملك لنفسها فضلاً عن غيرها شيئاً؟ فالله سبحانه هو الذي يمسك السماوات وعرفنا كيف يدبر الله سبحانه أمر هذا الكون فالشمس تطلع كل يوم من مشرقها، وتغرب من مغربها، والقمر يأتي في موعده ومن مكانه، ينير في أيام ويستتر في أيام، ويمحق في أيام، والله يقضي ما يشاء خلال العام سبحانه وتعالى.

وحين نتأمل مجرات الكون من الذي يمسكها؟ ومن الذي يأتي بها ويذهبها؟ ومن الذي يخلق هذه الأشياء العظيمة التي ينبهر الإنسان حين يتفكر فيها؟ إنه الله سبحانه فقد ثبت كل شيء في مكانه وفي مداره، فهو يجري ويدور وهو في موضعه الذي قضاه الله سبحانه وتعالى له، لا يخرج عنه إلى مكان آخر، فلو تخيلنا أن الشمس خرجت عن مدارها، أو القمر خرج عن مداره ما الذي يحدث؟ ما الذي يحدث لنا ونحن على هذه الأرض العجيبة التي جعلها الله عز وجل مهيئة بسكنى أهلها بهذه الأبعاد السماوية؟ فلو كانت الشمس قريبة من الأرض لاحترقت هذه الأرض جميعها، ولو أن القمر قرب أكثر مما هو عليه من الأرض لزاد المد والجزر ولغرقت هذه الدنيا.

فالإنسان يتخيل هذا النظام الدقيق فالقمر يدور حول الأرض في مدار ثابت، ثم يجعله الله ينزل في منازل حولها، ويجعل {الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس:٣٨]، في مكان وبعد ثابت بينها وبين الأرض، لا يختل نظام دوران الأرض، ولا جري الشمس عن مكانه منذ خلقها الله سبحانه إلى أن يشاء الله عز وجل، وشروق الشمس من مغربها من العلامات الكبرى لقيام الساعة، والله يمسك هذا كله ولو كان غير الله سبحانه يفعل شيئاً ومات هذا الغير؛ لانتهى هذا الشيء وزال وزالت السماوات والأرض ولكن الله وحده هو الذي يمسك هذا كله وغيره لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئاً.

{وَلَئِنْ زَالَتَا} [فاطر:٤١]، يعني: السماوات والأرض هل أحد يستطيع أن يثبتها؟ وانظر إلى آيات الله سبحانه حين يذكر القيامة {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:١ - ٩]، وقال سبحانه: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الانفطار:١ - ٤].

هذا النظام الكوني حين يبعثره الله سبحانه وتعالى، ويقضي عليه بالاضمحلال والزوال هل يقدر أحد أن يثبته على غير ما أراد الله؟ لا أحد يقدر على ذلك، {وَلَئِنْ زَالَتَا} [فاطر:٤١]، بأمر الله سبحانه وتعالى {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} [التكوير:١١]، أي: تكشط كما يكشط الذي يكون فوق الإناء {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن:٣٧]، أي: صارت حمراء كالدهان فتكشط وتزول هذه السماء العظيمة وتتناثر الكواكب والنجوم، ويسقطها الله إلى حيث يشاء سبحانه وتعالى.

ومعنى قوله {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:١]، أي: لف بعضها ببعض ثم تجعل في النار زيادة في عذاب أهلها وكل من عبد الشمس فأنه يتبعها إلى النار، وكذلك القمر يخسف به يوم القيامة، والنجوم تتكور وتنكدر ويذهب بعباد هذه الكواكب إلى النار والعياذ بالله.

{إِنْ أَمْسَكَهُمَا} [فاطر:٤١]، يعني: لا يمسكهما أحد بعد الله سبحانه وتعالى {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر:٤١]، الحليم: هو الذي لا يعاجل بالعقوبة مع القدرة عليها، والله عز وجل متصف بصفة الحلم، وصفة الحلم قريبة من صفة الصبر والصبر هو الانتظار والإمهال وعدم التعجل تقول فلان حليم يعني: لا يستخفه شيء أي: لا يستفزه ويجعله يندفع ويتهور هذا في الناس، والله سبحانه وتعالى رب الناس وهو حليم صبور سبحانه وتعالى.

إذاً: فصفة الحلم والصبر لله تدلان على رحمة رب العالمين وعلى أنه يتأنى على العبد ولا يتعجل عليه بعقوبته، ولكن هناك فرق بين الحليم والصبور: فالحليم قد تأمر عقوبته أما الصبور فهو الذي لا تأمن عقوبته وهو سبحانه الذي قضى أن رحمتي سبقت غضبي، فرحمة الله عز وجل تغلب غضبه وتسبقه.

فهو يحلم عن عباده إذا وقعوا في المعاصي فلا يبادرهم بالعقوبة ولكن يصبر عليهم سبحانه وتعالى لعلهم يتوبون، ولذلك جاء في الحديث، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الملكان: ملك عن يمينك، وملك عن شمالك، الذي عن يمينك يكتب عليك حسناتك والذي عن شمالك يكتب عليك سيئاتك، فجعل الله عز وجل الذي عن يمينك حاكم على الذي عن يسارك، فإذا بدر من الإنسان معصية أمره الذي عن اليمين اصبر عليه لعله يتوب، فيرفع عنه قيل ست ساعات لعله يتوب فإذا لم يتب كتب عليه الذي فعله والله أعلم.

فالغرض أن الله سبحانه يحب من عبده أن يتوب، فإذا بادر بالتوبة ورجع إلى الله عز وجل تاب الله عز وجل عليه، وقد يبدل سيئاته حسنات، ولكن العبد الذي يصر على معصية الله سبحانه، هو الذي يستحق عقوبة رب العالمين سبحانه، {غَفُورًا} [فاطر:٤٢] أي: يمحو الذنوب ويسترها، ويعطي للعبد الأجر يوم القيامة إن تاب إليه، وإن شاء الله سبحانه وتعالى تاب عليه بغير توبة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>