للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[عظم الخيرات الموجودة في أرض مصر]

ثم يقول سبحانه: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان:٢٥]، فقوله: (كم تركوا) منصوبة بالفعل الذي بعدها، يعني: تركوا كثيراً، و (كم) هنا بمعنى: كثيراً، فالذي تركوه كثير جداً، فقد تركوا أرض مصر وفيها الخيرات العظيمة: جنات وبساتين وعيون، فهي أرض مليئة بنعم الله سبحانه وتعالى، وانظروا إلى سيدنا يوسف عندما كان يقول للملك في مصر: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} [يوسف:٥٥]، فقد كان الناس يذهبون إلى مصر عند حصول المجاعات في الشام والبلاد حولها فيأخذون منها طعامهم، وقد كان يعقوب يرسل بنيه إلى مصر ليأخذوا منها الطعام ويرجعوا، وقصة يوسف معروفة، فيوسف يقول لملك مصر هنا: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} [يوسف:٥٥]، وكأن مصر هي خزانة الأرض كلها، هذه البلاد العظيمة التي ضيع الناس فيها عبادة الله عز وجل فاستحقوا من الله أن يشدد عليهم، وأن يذيقهم البلاء، وما زالت مصر تنهب من آلاف السنين، فما من حاكم جاء على مصر إلا وأخذ، ومع ذلك فما زال في هذه البلاد خير، ولكن الله سبحانه وتعالى يبتلي العباد لما في قلوبهم من كبر على الله سبحانه، ومن ظلم بعضهم لبعض، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:٩٦].

فالله عز وجل يقول عن فرعون ومن معه: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان:٢٥]، وفي مصر نهر النيل وأصله من الجنة كما أخبر النبي صلوات الله وسلامه عليه، فتركوا هذه الجنات والبساتين والحدائق التي تسقى من هذا النهر العظيم، وتركوا هذه الأرض الخصبة، فهي أرض خيرها كثير بفضل الله سبحانه، {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان:٢٥]، وكلمة: (عيون) تقرأ بضم العين كقراءة الجمهور، وتقرأ بكسرها كقراءة ابن كثير وابن ذكوان وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف.

قال: {وَزُرُوعٍ} [الدخان:٢٦] أي: الحقول والبساتين، قال: {وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الدخان:٢٦]، (ومقام): هو مكان الإقامة، (كريم): أي: يكرم الله من يقيم فيها، ويرزقه من الخير العظيم الموجود فيها، وهذا يدل على أن الناس كانوا مرفهين منعمين في هذا البلد.

ويقول ربنا سبحانه: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:٥ - ٦]، فقد أراد فرعون أن يهلك بني إسرائيل حتى لا يهلك هو، فإذا بالله يهلكه ويتم أمره كما يريده سبحانه وتعالى.

قال تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان:٢٥ - ٢٧].

فقوله: (نعمة) بمعنى: تنعم، فقد كانوا مرفهين في هذه البلاد، فكانت عندهم من الخيرات العظيمة كالماء والزرع والفاكهة والنعم العظيمة من الله، فعتوا وعلوا على أمر الله سبحانه فأذلهم الله سبحانه وتعالى، قال: {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان:٢٧]، ويقال لها: نِعمة ونعمة، والفرق بين الاثنين: أنك تقول في اليد والجميل والصنائع: نِعمة بالكسر، وتقول في الرفاهية والرغد في العيش والترف: نَعمة بفتحها من التنعم.

قال سبحانه مخبراً عن حالهم: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان:٢٦ - ٢٧]، وكلمة (فاكهين) فيها قراءتان: قراءة أبي جعفر: (فكهين) وقراءة الجمهور: (فاكهين)، وكأنها مأخوذة من الفاكهة، أي: الشيء الزائد عن قوت الإنسان، والإنسان يحتاج للقوت الضروري فقط، بحيث لو نقصت الفاكهة لما توفي، فهي من الأشياء الزائدة عن قوت الإنسان، فهؤلاء كانوا فاكهين، أي: منعمين، فعندهم الضروريات وفوق الضروريات التي تجعلهم يضحكون ويلهون ويلعبون، بل وعندهم الفراغ الذي يجعلهم يعرضون عن الله سبحانه، ففاكهين: بمعنى: مازحين لاهين لاعبين فرحين، وهو الفرح الذي يوصل إلى الأشر والبطر على الله وعلى نعمه سبحانه وتعالى.

قال سبحانه: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان:٢٨].

فقال: {كَمْ تَرَكُوا} [الدخان:٢٥]، وقال: {كَذَلِكَ} [الدخان:٢٨] أي: كذلك فأهلكناهم ونجينا منهم بني إسرائيل، قال: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان:٢٨] أي: كذلك نصنع بغيرهم من إهلاك أقوام وإحياء أقوام آخرين، فننعم على أقوام ونبتلي أقواماً آخرين.

قال: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان:٢٨] أي: أنه أورث أرض مصر لقوم آخرين غير هؤلاء السابقين، وقد قيل: إن هؤلاء القوم هم بنو إسرائيل، وهو بعيد جداً؛ لأن التاريخ ينفي رجوع بني إسرائيل إلى مصر مرة ثانية فضلاً عن أن يهلكوا فيها، فالظاهر: أنه أورثها قوماً آخرين غير هؤلاء، ومكن لبني إسرائيل في مكان آخر، ولذلك أُمر بنو إسرائيل بعد ذلك أن يدخلوا بيت المقدس، قال تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [الأعراف:١٦١]، فرفضوا أن يصنعوا ذلك، وعبدوا العجل من دون الله عز وجل، فابتلاهم الله سبحانه وتعالى بالتيه، فكأنهم ذهبوا بعد إغراق وإهلاك فرعون وقومه إلى بلاد الشام، وأما مصر فإن الله عز وجل أورثها قوماً آخرين غير هؤلاء الأقوام الذين سبقوا، قال: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان:٢٨].

<<  <  ج:
ص:  >  >>