[تفسير قوله تعالى: (ثم أرسلنا رسلنا تترا)]
قال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:٤٤].
قوله: (تَتْرَا) بمعنى متتابعين، وقد يكون معنى التتابع على كلمة (تترا) أي: بينهم مهلة، فيأتي الرسول ويمكث في قومه فترة، ثم بعد ذلك يأتي هؤلاء القوم فيهلكهم الله ويموت الرسول عليه الصلاة والسلام، وينشئ الله عز وجل قوماً آخرين، ويرسل إليهم رسولاً آخر يدعوهم إلى الله عز وجل، فكأن قوله: (أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا)، أي: أن قوماً يأتيهم رسول فيهلكهم الله عز وجل، ثم يأتي القوم من بعدهم فيرسل إليهم رسولاً، وهكذا.
فالتواتر: هو التتابع، ومنه تواتر المطر أي: نزل بعضه وراء بعض، وهنا الرسل أرسلهم الله عز وجل متتابعين يتبع بعضهم بعضاً.
وهذا من رحمة رب العالمين بعباده سبحانه، أنه لا يتركهم وأنفسهم وهواهم وشياطينهم، وإلا فإنهم سوف يضلون ولا شك في ذلك، ولكن الله عز وجل ينزل كتباً من السماء، ويرسل رسلاً لكي لا يكون لهؤلاء الأقوام حجة على الله عز وجل بعدما أنزل الكتب، وبعدما أرسل الرسل.
والله عز وجل جعل حججاً كثيرة على ابن آدم، فجعل في نفسه قلباً وعقلاً فينظر ويعتبر ويستمع ويتأثر، ويعرف بفطرته وقلبه وعقله وتفكيره أن هذا الكون لا بد أن يكون له خالق سبحانه وتعالى، ويعرف أن هذا الخالق هو الذي يستحق أن يعبد، ومع ذلك يغويه الشيطان، ويجعله يعبد غير خالقه سبحانه، فلم يترك الله عز وجل العباد لفطرهم فقط، ولكن أنزل كتباً من السماء، وأرسل رسلاً يدعون القوم إلى ربهم سبحانه، ولعل هؤلاء الأقوام يكذبون الرسل، فجعل مع كل رسول علامة ومعجزة وآية تدل على أنه رسول من عند رب العالمين.
إذاً: هنا أرسل الرسل وجعل معهم الحجج، وجعل الآيات البينات التي يفهمها كل ذي عقل، ويراها كل ذي عينين، وحينها ليس لأحد حجة على الله عز وجل بعدما فعل بهم ذلك سبحانه.
وقوله: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا) (تترا) فيها قراءات: فعلى الوصل تقرأ: (ثم أرسلنا رسلنا تترا كل ما جاء أمة رسولها)، وتقرأ: (ثم أرسلنا رسلنا تتراً كل ما جاء أمة رسولها).
فقرأها أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو بالتنوين: (تتراً) ويظهر هذا في الوصل، وقرأها باقي القراء: (تترا) بالألف في آخرها، فعلى قراءة هؤلاء سيقرأ البعض منهم بالتقليل مثل ورش، وسيقرأ البعض منهم بالإمالة: مثل حمزة والكسائي وخلف، وسيقرؤها الباقون بالفتح: (تترا)، وسيظهر الفرق بين قراءة هؤلاء والآخرين عند الوصل، أي: في قراءة: (تترا كلما)، و (تتراً كلما) وفي الوقف سيظهر أيضاً الخلاف بينهم فيمن يقف عليها بالفتح، ومن يقف عليها بالتقليل، ومن يقف عليها بالإمالة.
قوله: (كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ)، (كل) هنا فيها عموم، فكل الأقوام الذين أرسل الله عز وجل إليهم رسلاً أول ما يواجهون رسولهم بالتكذيب، ولذلك يخبر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس بدعاً من الرسل: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ} [الأحقاف:٩]، فهو ليس شيئاً جديداً، بل من قبله كانت هناك رسل، وليس هو أول من جوبه بالتكذيب عليه الصلاة والسلام، بل كل الرسل من قبله قد جوبهوا بالتكذيب.
إذاً: الإنسان الذي يدعو إلى الله عز وجل لا ينتظر أن يكون الأمر سهلاً، أنه مجرد ما يدعو إنساناً إلى الله فإنه يستجيب له بسرعة، فلست أكرم على الله من رسله عليهم الصلاة والسلام الذين جوبهوا بالتكذيب من أول ما دعوا.
قال تعالى: (كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ)، أي: أنهم قلدوا من قبلهم، فجاءهم ما جاء الذين من قبلهم، {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:٢] أي: قيسوا أنفسكم على هؤلاء الرسل، فهؤلاء المكذبون كذبوا رسل الله عليهم الصلاة والسلام فأهلكوا.
فالذين من بعدهم اتبعوهم في التكذيب فأتبعناهم بالعقوبة، وعجلناهم بها، والذين من بعدهم هكذا، (فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا) أي: إهلاكاً بعد إهلاك، فكل من كذب الله سبحانه وتعالى أهلكه.
قال تعالى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ) والأحاديث هنا: جمع أحدوثة، وهي ما يتحدث به، يعني: جعلناهم قصصاً وحكايات للناس، فيتذكروا قوم عاد، وماذا عملوا حتى أهلكهم الله، فبعدما كانوا قوماً لهم مكانة وشأن وديار انتهوا، ولكن تتحدث عنهم حكايات قوم نوح وقوم عاد فقوله: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ) جمع أحدوثة، وهي: ما يتحدث به، كالأعاجيب تتعجب من شأنهم وأمرهم.
وغالباً ما يطلق ذلك على الشر، أي: جعلناهم أحاديث في الإهلاك، وقد يطلق ذلك في الخير، ولكن الغالب في الشر، فجعل هؤلاء القوم أحاديث معناه: أنه أبادهم وأفناهم وجعل فيهم عبرة لمن اعتبر، قال الله سبحانه في الآية الأخرى: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ:١٩]، فأصبحوا ذكرى، فتتذكر هؤلاء القوم الذين أساءوا فأهلكهم الله ومزقهم وأبادهم.
ثم من بعد هؤلاء أنشأ الله قروناً كثيرة، ما بين نوح وبين موسى على نبينا وعليهم الصلاة والسلام آلاف السنين، ومئات القرون الذين أرسل الله إليهم رسله، قال تعالى: {مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:٧٨].
ثم بعد ذلك التراخي: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا) وراء بعض، ومن ثم في النهاية جاء موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام وأخوه هارون.