[تفسير قوله تعالى: (قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها)]
وهنا أيضاً ظهرت حكمتها وحنكتها وسياستها، وأنها كانت عاقلة، فلم تقل: أنتم عددكم كبير وألوف، فنبعث له جيشاً لتدميره، ولكن قالت لهم حتى تريهم رأيها: افرضوا أننا انهزمنا؟ فسيدخل هذا الملك بمن معه بلادنا فيدمرها ويذل سادة القوم؛ ولذلك قالت: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} [النمل:٣٤].
وهذا حاصل في غير جند الإسلام، فإنهم يدخلون القرى ليعمروها، وهم ممنوعون من التخريب والإفساد، وإنما يدعونهم إلى توحيد رب العالمين سبحانه وتعالى.
فجهاد المسلمين ليس لتخريب الديار، بل لإعمار البلاد، ولإعمار قلوب العباد، ولإدخال العباد في عبادة الله بدلاً من عبادة العباد من دون الله رب العالمين.
فالإسلام يأمر المقاتلين أن إذا أتيتم قرية فلا تبدأوا بالقتال، ولكن ابدأوا بدعوة هؤلاء إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فإن أطاعوا لذلك فكفوا عنهم، واجعلوا حاكمهم منهم، بشرط أن يحكمهم بشرع الله سبحانه وتعالى.
فهذا الدين جاء ليحكم العباد لا بشريعة العباد، أو شريعة الغاب، ولكن بشرع رب العالمين سبحانه.
وفي هذا الدين: أن الناس سواسية كأسنان المشط، فخيرهم عند الله أتقاهم، وأقربهم إلى الله المؤمن التقي، إذاً: فإذا فتح الإسلام أرضاً حكمها بالعدل.
وقد عرفت اليهود ذلك، فلما ذهب إليهم عبد الله بن رواحه رضي الله عنه يخرص أرض خيبر، أرادوا أن يدفعوا له رشوة من أجل أن يخرص بالظلم، فقال: والله إنكم لأبغض الخلق إلي، ولا يمنعني ذلك من أن أعدل بينكم فيما أرسلني فيه النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال اليهود: بهذا قامت السموات والأرض، يعني: بالعدل الذي أنتم عليه قامت السموات والأرض.
فدين الإسلام دين العدالة، فإذا فتح البلاد عدل بين أهلها، لكن أي ملك من الملوك إذا فتح أرضاً خرب فيها، فسجن أهلها، وجعل أعزة الناس فيها أذل الناس وأحطهم.
والناظر في أحوال البلاد يرى كيف يصنع الكفار مع الناس إذا أخذوا بلادهم، وكيف يذلون أهلها، وكيف يخرجون أوضع الناس فيجعلونه الرفيع فيهم، والرئيس عليهم، ويأخذون أعلى الناس فيجعلونهم تحت التراب، ولا يهمهم ما الذي يصنعونه، فيبيحون البلاد، ويغتصبون النساء، ويدمرون البلاد، ويقولون: إن الوقت وقت حرب نفعل فيه ما نشاء لأننا الغالبون، فلا حساب علينا، ولا محاكمة لنا، فالقانون قانون الغاب، القوي الغالب يفعل ما يشاء بالضعفاء، ولا يقدر أحد أن ينكر، وهذه شريعة الغاب المعروفة منذ القدم.
ولذلك أرسل الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الدين العظيم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:٩٠]، أي: يأمرك أن تعدل، وأن تحسن، وأن تؤتي ذوي القربى حقهم، ثم قال: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:٩٠]، أي: وينهى عن المنكر، والظلم، وأن يبغي بعضكم على بعض.
وقد سمع هذه الآية الوليد بن المغيرة، فقال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر.
قالت الملكة هنا: وهذا إما أن يكون قولاً لها، وإما أنه تعقيب من رب العزة سبحانه، وفعلاً يحدث هذا الشيء، وكذلك يفعل الملوك، إلا من رحم الله وجعله على شريعة الإسلام يحكم بين الناس بالعدل.
وقد رأينا النبي صلى الله عليه وسلم كيف دخل مكة حين فتحها، ومعه جيش جرار أرعب أهل مكة، فلما فتحها ولاذ الناس ببيوتهم أرسل منادياً ينادي: (من دخل الحرم فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل بيته فهو آمن)، فأمن الناس صلوات الله وسلامه عليه، ولما قال بعض من معه في جيشه: اليوم يوم الملحمة -يعني: يوم القتال- فأرسل ينفي ذلك، ويقول: (بل اليوم يوم المرحمة) أي: يوم الرحمة.
ثم جمع أهل مكة وقال لهم: (ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم)، وهم الذين قتلوا عمه حمزة رضي الله تبارك وتعالى عنه، ومثلوا بجثته، وقتلوا مصعباً وغيره من المسلمين، وهم الذين شجوا وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وكسروا المغفر أو البيضة على رأسه، وأرادوا قتله، ومع ذلك يقول لهم صلى الله عليه وسلم: ما تظنون أني فاعل بكم؟)، قالوا: (أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء).
ولما قال بعض أصحابه: (اليوم يستباح الحرم، قال: لا، اليوم يعظم الحرم).
وبدأت بلقيس بهذا القول: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} [النمل:٣٤]؛ من أجل ألا يشهد عليها الملأ بالقتال، فاستحثت عقولهم: أن فكروا قبل أن تفعلوا شيئاً، فلو دخل الملوك عليكم وهزموكم دمروا قراكم وبلدكم.
وفي هذه الآية مبدأ الشورى الذي أمرنا الله عز وجل به، حين قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:١٥٩]، فأمره سبحانه أن يشاور المؤمنين، ومن هذا الذي من المؤمنين رأيه أرجح من رأي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المؤيد بالوحي من السماء.
ولكن مهما كان الأمر فسنة رب العالمين في خلقه الشورى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:١٥٩].
فالإنسان الذي يحكم هو واحد، ورأيه رأي واحد، ولكن إذا استمع إلى مجموعة أضاف عقولهم إلى عقله، ولذلك كان العاقل هو الذي يستشير، وقد قال الله عز وجل يمدح المؤمنين بما فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:٣٨]، فهو يشاور المؤمنين ويعمل بما نتج عن الشورى من رأي، وقد يخطئون، ومع ذلك يأخذ برأيهم صلوات الله وسلامه عليه.
ففي يوم أحد كان رأي النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لا يخرج من المدينة، وقد رأى رؤيا تؤيد ما قاله صلى الله عليه وسلم، فقد رأى أن المدينة حصن عظيم، ولكن أكثر المؤمنين كان رأيهم أن يخرجوا لقتال المشركين، فنزل على رأيهم صلوات الله وسلامه عليه، واستجاب لهم، ولبس لأمة القتال، فلما وجدوا أنهم فرضوا عليه شيئاً خلاف رأيه تراجعوا، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ننزل عن رأيك، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمة القتال أن ينزعها حتى يقاتل)، فلما خرجوا إلى ساحة الحرب نزل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منازلهم، وأمر الرماة ألا يفارقوا موضعهم، ولكنهم لما عصوا النبي صلى الله عليه وسلم حاقت بهم الهزيمة بعد ذلك.
وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمشورة القوم في مواطن كثيرة، وكان يقول يوم بدر: (أشيروا علي أيها الناس!)، فقال سعد بن معاذ رضي الله عنه: (يا رسول الله! لعلك تعنينا - أي: الأنصار-؟ قال: نعم، قالوا: يا رسول الله! سر أينما شئت، ووال من شئت، وعاد من شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، فوالله لو خضت بنا برك الغماد لخضناه معك).
يعني: نخوض هذا البحر حتى نصل إلى المكان الذي تريده.
واستشارهم في يوم أحد، واستشارهم في غير ذلك.
بل استشارهم في أمر يخصه صلى الله عليه وسلم حين تكلم الملعون عبد الله بن أبي بن سلول بحديث الإفك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أشيروا علي يا قوم!) أي: في هذا الأمر، فلما استشارهم صلوات الله وسلامه عليه حدث بين الناس كلام، وكاد أن يقوم بعضهم إلى بعض، فأسكتهم النبي صلى الله عليه وسلم ورجع إلى بيته.
والغرض مما ذكر: أن يعلم أن مبدأ الشورى مبدأ عظيم، فلا يخيب أبداً إنسان يستشير، بل الذي يتهور ويندفع هو الأحرى بالخسران والخيبة.
فالمرأة كانت عاقلة وذكية؛ ولذلك استشارت من معها؛ حتى يعرفوا منزلتهم عندها، ثم بعد ذلك ألقت بالنصيحة: أن الحرب سجال، فقد ننتصر، ولكن الهزيمة واردة، فلو حصلت الهزيمة فسيدخلون بلادنا، وهذا الذي أرسل هدهداً برسالة، معناه: أن معه جنوداً كثيرين، فاحتمال الهزيمة كبير.