[تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه)]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الحج: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج:٦٠ - ٦٥].
في هذه الآيات من سورة الحج يذكر الله سبحانه وتعالى عظيم قدرته وبديع صنعته في خلقه للسماوات وللأرض، وذكر أنه سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى، ومقتضى أسمائه أن له أفعالاً عظيمة في خلقه ويرينا بعضاً منها في سبع آيات متعاقبة، وكل آية يختمها ربنا سبحانه باسمين من أسمائه الحسنى.
وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة).
فقوله: (أحصاها) أي: حفظ هذه الأسماء وعرف معانيها وقام بحقها ودعا الله عز وجل بها في مواطنها.
وهنا ربنا ينبهنا في كل آية باسمين من أسمائه الحسنى مناسبين للآية، فقال سبحانه: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج:٦٠]، فذكر اسمين من أسمائه: العفو والغفور سبحانه وتعالى.
ومن أسمائه الحسنى ما فيها صفات لا تليق إلا به وحده سبحانه، ومنها ما فيها صفات تليق به سبحانه وتعالى وحده لجلالها وكمالها، وأمر العباد أن يتخلقوا بالأوصاف التي فيها كالمغفرة والرحمة، فأمر عباده أن يعفو بعضهم عن بعض، وأن يتراحم بعضهم مع بعض، فمن الصفات التي له سبحانه وأمر العباد أن يتصفوا بها، الرحمة والعفو، فيكون فيهم الرحمة والمغفرة للناس على ما يسيئون إليهم.
فذكر هنا: (وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ) وعاقب هنا بمعنى: جازى عقاباً للذي عاقبه، كأنه من ظلم فجوزي على ظلمه.
قال تعالى: (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ) وعد الله المظلوم بأنه ينصره، وهنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا قبل ذلك لما لاقوا الكفار في شهر حرام استغل الكفار الفرصة لأن المسلمين لا يقاتلون في الشهر الحرام، وأرادوا قتالهم، فنصحهم المسلمون بأن هذا لا ينبغي؛ لأنه شهر حرام، فأبى الكفار، فقاتلهم المسلمون فنصرهم الله سبحانه وتعالى، فأخبرنا هنا أن من عاقب بمثل ما عوقب به، أي: هؤلاء الذين جازوا الكفار بمثل ما فعل الكفار، فإذا بغى الكفار واستغلوا الشهر الحرام، فالله عز وجل ينصر المظلوم، فنصر الله عز وجل المؤمنين ووعدهم بنصره.
قال تعالى: (لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) هنا ينصر المظلوم، وأيضاً يشير لهذا الإنسان الذي يظلم بأن من صفات الله عز وجل العفو والمغفرة، فكن أنت أيضاً على مثل هذه الصفة، قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:٢٢]، ففي هذه الآية إشارة إلى اسمين من أسمائه سبحانه أنه يعفو عن الذنوب ويتجاوز عن السيئات ويغفر ويستر سبحانه وتعالى، وفيه تعريض للمؤمنين أيضاً أن يكونوا على مثل هذه الصفات، اعفوا واصفحوا حتى يغفر الله عز وجل لكم.
فمناسبة ما ذكر من عقوبة ومن نصر لله سبحانه وتعالى، وأن الله ينصر عباده المؤمنين المظلومين، ختم بالعفو والمغفرة، فإن هذا الكافر الذي قاتل المسلمين لعله يسلم يوماً من الأيام، فالله عز وجل يغفر لمن دخل في الإسلام بعد كفره، والإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها، فعلى ذلك هنا ربنا سبحانه وعد المؤمنين بالنصر، وأيضاً المغفرة لمن تاب إليه سبحانه والعفو عما سلف.
فهذان اسمان من أسماء الله الحسنى: العفو والغفور.
(لَعَفُوٌّ) العفو: يتجاوز سبحانه وتعالى عن الذنوب لمن تاب إليه سبحانه.
(غَفُورٌ) الغفور: الذي يستر الذنوب ويمحوها ويزيلها، والذي لا يؤاخذ بها سبحانه إذا تاب العبد إليه.