للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية)]

قال الله سبحانه: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [الزمر:٢٠] كلام الله عظيم، والقرآن الكريم يجعل العبد بين أمرين بين الترغيب والترهيب، بين الحب لله سبحانه والخوف من الله سبحانه تبارك وتعالى، بين الطمع فيما عند الله سبحانه وبين الخوف مما عند الله، ذكر الله أهل النار وأخبر أن من فوقهم ظللاً من النار ومن تحتهم ظلل، وأنهم في دركات من النار تغطيهم نار وأسفلهم نار والعياذ بالله، ثم ذكر أهل الجنة حتى لا ييئس الإنسان من رحمة رب العالمين سبحانه، فأهل الجنة في نعيم مقيم قال الله: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر:٢٠] و (لكن) هنا ليست استدراكاً، فالاستدراك لابد أن يكون قبله نفي نحو: ما جاءني زيد لكن جاءني عمر، فتنفي شيئاً وتثبت شيئاً آخر، أما (لكن) لكن هنا فللتغيير من قصة إلى قصة، من ذكر شيء إلى ذكر شيء آخر، فلذلك لم يسبقها نفي.

وقوله: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ} [الزمر:٢٠] الغرفة بمعنى المكان العالي المرتفع، والغرفة في بيت الإنسان أعلى البيت وأشرف المكان، هذا أصل كلمة الغرفة، فهي المكان المرتفع الذي يأوي إليه الإنسان ويحبه ويكون أشرف الأماكن عنده.

فالمؤمنون في غرف في علالي، بعضها أعلى من بعض كما أن الكفار في دركات بعضها أسفل من بعض، قال الله: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ} [الزمر:٢٠] وهي أعالي الجنات {مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [الزمر:٢٠] فذكر الغرف وهي العالية وفي أعلى منها أيضاً في الجنة للمؤمنين {غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [الزمر:٢٠] بناها ربنا سبحانه تبارك وتعالى، جعلها لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وجعل فيها الأنهار، وجعل حصباءها المسك الأذفر، وجعل فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فهي غرف مبنية، يقول ابن عباس: من زبرجد وياقوت، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وغرف يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها)، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في الجنة طولها خمسون ميلاً من درة مجوفة، وهذه للمؤمن من ضمن خيماته ومن ضمن قصوره، سميت خيمة ولكن حقيقتها أنها جوهرة مجوفة طويله، فهذه خيمة لمؤمن في الجنة! نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته.

قال الله سبحانه: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهار} [الزمر:٢٠] أي من تحت أشجارها، ففي الجنة أشجار عالية، وتجري من تحتها الأنهار، كأنه يريد صورة التنزه في الدنيا، ففي الجنة سترى ما تشتهيه، وتتنزه في الجنة، وتنظر إلى ما يذكره الله سبحانه تبارك وتعالى، وأنهار الجنة ذكرها الله سبحانه فقال: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:١٥].

جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم)، فأهل الجنة درجة فوقها درجة، درجة فوقها درجة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقال لقارئ القرآن) أي: الذي يحفظ القرآن (اقرأ وارتق فإن لك بكل آية درجة في الجنة) فكل آية يصعد بها درجة في الجنة، منازل بعضها فوق بعض حتى يصل إلى أعلى المنازل، وهي منازل من يحفظ القرآن كله، ويعمل بما أمر الله عز وجل فيه ويجتنب ما نهى الله عز وجل عنه.

فأهل الجنة الذين تحت ينظرون إلى أهل الغرف، كما تنظر أنت إلى الكوكب الغابر في السماء، كما تنظر إلى نجم بعيد في السماء، تنظر إليه وتتشوق إليه، وترفع بصرك، كذلك أهل الجنة ينظرون إلى أهل الغرفات كما ينظر أحدكم إلى كوكب عال في السماء.

(قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، فقال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)، فكل مؤمن صدق الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعمل بذلك يستحق أن يكون من أهلها.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>