[تفسير قوله تعالى: (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون)]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة العنكبوت: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت:٥٦ - ٦٢].
لما أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن المشركين وعن تهورهم واستعجالهم العذاب، فقال الله سبحانه: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} [العنكبوت:٥٣]، وكل ما هو آت فهو قريب، فالمشركون يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم تعجيل العذاب، ولكن الله قد قضى أن عذابهم له أجل مسمى، فهو في علم الله عز وجل، والمؤمنون يستعجلون عذاب الكافرين، ويستعجلون الانتصار عليهم، والله عز وجل قد أجل عنده أجلاً، فإذا جاء أجل الله عز وجل ونزل قضاؤه وقدره بهؤلاء {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً} [العنكبوت:٥٣] أي: فلن يأتيهم بعلامة قبلها، ولكن يأتيهم بغتة: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [العنكبوت:٥٣].
وقال تعالى: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [العنكبوت:٥٤]، أي: هؤلاء الكفار الذين يطلبون العذاب وينتظر المؤمنون عذابهم يخبر الله سبحانه وتعالى بأنهم تحيط بهم جنهم يوم القيامة، (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين)، فلا يقدرون على الهرب منها، ويوم القيامة يستشعر الجميع أن الدنيا لم تكن شيئاً مهما طالت وإذا سئلوا {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:١١٢ - ١١٣]، فمهما طال العمر بالإنسان فإنه في يوم القيامة يقول: لبثنا يوماً أو بعض يوم، أي: جزءاً من اليوم، فالإنسان الذي يستعجل في الدنيا يقال له: لا تعجل ستعرف يوم القيامة أن الدنيا لم تكن شيئاً، وأن طول عمرك في الدنيا لا يساوي شيئاً، قال الله عز وجل عن عذاب يوم القيامة الذي يستعجلونه: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:٥٥]، أي: فقد أحدقت بهم جهنم، وأحاطت بهم، فمن فوقهم نار، ومن تحتهم نار، وهم محبوسون داخلها لا انفكاك لهم عنها، ولا مهرب منها.
لقد أمر الله عز وجل المؤمنين في الدنيا بأن يهاجروا من الأرض التي فيها الكفر، والظلم فقال: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:٥٦]، أي: لم تخلقوا لتهانوا في مكان تقدرون على الهرب منه والخروج منه، فاخرجوا فإن أرض الله واسعة كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى.
وقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} [العنكبوت:٥٦] هذا نداء للمؤمنين، وهذه قراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وابن عامر وعاصم، وباقي القراء يقرءونها: (يا عبادِ الذين آمنوا).
{إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت:٥٦] قراءة الجمهور، (إن أرضي) بالسكون، وقراءة ابن عامر: ((إن أرضيَ واسعة فإياي فاعبدون)) وقراءة الجمهور: {فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:٥٦]، وقراءة يعقوب وقفاً ووصلاً: ((فاعبدوني)).
فالله عز وجل يأمر المؤمنين بقوله: (اعبدوني) أي: في أي مكان، فلا تصبروا على البقاء في مكان تهانون فيه، وتمنعون فيه من إقامة شعائركم، وشرائع الله سبحانه بل هاجروا منه إلى مكان آخر.
والمؤمنون منهم من هاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ومنهم من بقي بمكة ولم يهاجر، فكان المسلمون يراسلونهم، ويطلبون منهم أن يخرجوا، فيقولون: نخشى إن هاجرنا، والبعض منهم خرجوا، واستطاعوا أن يصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والبعض الآخر أمسك بهم الكفار، وعذبوهم وضربوهم في مكة، فالله عز وجل يقول للمؤمنين: ((إن أرضي واسعة)) فمن استطاع أن يهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فليفعل ذلك، ومن استطاع ولم يفعل وظل مع الكفار، ومع من يفتنه عن دينه مع قدرته على الخروج فقد وقع في قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} [النساء:٩٧]، فهم كانوا مستضعفين في بلدهم لكنهم كانوا يقدرون على الخروج من هذه الأرض ومع ذلك ظلوا فيها، فقد بقوا في مكة يفتنهم الكفار فيفتنون، فأخبر الله سبحانه عن هؤلاء وأمثالهم الذين فتنهم الكفار فارتدوا على أعقابهم، وتركوا دين الله سبحانه بقوله: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:٩٧] وهنا يقول: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:٥٦].
والإنسان مخلوق لعبادة الله سبحانه، قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦]، فالمطلوب منه العبادة، وعمر الإنسان غالٍ جداً لا يساويه أي ثمن من الأثمان، وأغلى شيء عند الإنسان عمره، فكلما عبد الله سبحانه وتعالى كلما كان قريباً من ربه سبحانه، ويكون منزله في أعلى الجنات، وكلما فرط وقصر كلما بعد شيئاً فشيئاً حتى يكون في النار، ولذلك على الإنسان أن ينتهز لحظاته، وساعاته وأوقاته حتى يدخل جنة الخلود بعمله الصالح بعد رحمة الله سبحانه.