للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[سبب نزول قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم)]

جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لما اجتمعنا على الهجرة استعدت أنا وهشام بن العاص بن وائل السهمي وعياش بن أبي ربيعة بن عتبة، فقلنا: الموعد أضاة بني غفار، أي: أن عمر رضي الله عنه أراد أن يهاجر هو وهشام بن العاص بن وائل، وعياش بن أبي ربيعة بن عتبة بن أبي ربيعة، فتواعد الثلاثة على مكان اسمه: أضاة بني غفار ليلقى بعضهم بعضاً هناك، ثم يهاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد سبقهم إلى المدينة صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم لبعض: من تأخر منا فقد حبس، فليمض صاحبه.

أي: أنه من تأخر منهم عن هذا الموعد ليعلم الباقون أن الكفار قدروا عليه وأمسكوه، فلا ينتظروه، ولينصرفوا مهاجرين إلى المدينة.

قال عمر: فأصبحت أنا وعياش بن عتبة، وحبس عنا هشام بن العاص - وهو أخو عمرو بن العاص رضي الله عنه - وإذا به فتن فافتتن، أي: أن الكفار أخذوه إلى أبيه العاص بن وائل السهمي، فأخذ ابنه وفتنه عن دينه ففتن، ورجع إلى ما كان عليه من الكفر.

وبعد أن هاجر عمر وعياش إلى المدينة تاركين هشاماً بعد أن فتنه المشركون، ورجع إلى ما كان عليه المشركين أو وافقهم فيما هم فيه، يقول عمر رضي الله عنه: فكنا نقول بالمدينة: هؤلاء قد عرفوا الله عز وجل وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم، ثم افتتنوا لبلاء لحقهم، فلا نرى لهم توبة، أي: بعدما عرف هؤلاء الإسلام، وعرفوا دين النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجعوا إلى الكفر بعد أن فتنهم الكفار، فلا توبة لهم، قال عمر: وكانوا هم أيضاً يقولون ذلك، كأن من فتن من المسلمين، ورجع إلى ما كان عليه من الكفر، وطاوع الكفار لا توبة له.

يقول عمر رضي الله عنه: فأنزل الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:٥٣].

ثم قال عمر: فكتبتها بيدي، أي: فرح عمر بذلك وكتبها بيده، قال: ثم بعثتها إلى هشام، قال هشام: فلما قدمت علي هذه الآيات خرجت بها إلى ذي طوى، فقلت: اللهم فهمنيها! وكأنه لم يفهمها، فأخذها وخرج إلى مكان خالٍ يتفكر فيها ويدعو ربه سبحانه، فصدق مع الله سبحانه تبارك وتعالى ففهمه إياها، قال هشام: فعرفت أنها نزلت فينا، فرجعت فجلست على بعير، ثم لحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: أنه هاجر إلى المدينة، وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان، فقال في عمرو بن العاص وأخيه هشام بن العاص: (إنهما مؤمنان) رضي الله عنهما، فهذا الرجل فتن فافتتن، ثم أنزل الله عز وجل هذه الآيات، فتاب وهاجر إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه.

ويذكر ابن عباس رضي الله عنهما سبباً آخر فيقول: كان قوم من المشركين قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فبعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لنا توبة؟ أي: هذا الذي جئت به كلام عظيم - والقرآن كله كلام عظيم - فإذا كان لنا توبة دخلنا معك، وإن لم يكن لنا توبة فعلام ندخل في الدين، ونحن معذبون؟! فإذا بالله عز وجل ينزل هذه الآيات العظيمة: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:٥٣].

أيضاً قوله سبحانه في آخر سورة الفرقان: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:٦٣]، إلى أن قال عز وجل: {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:٦٨ - ٧٠] ففرحوا بهذه الآيات، ودخلوا في دين الله تائبين إليه سبحانه تبارك وتعالى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>