[تفسير قوله تعالى:(ونجيناه وأهله من الكرب العظيم)]
قال الله تعالى:{وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}[الصافات:٧٦] دعا نوح ربه بعدما طال دعاؤه لقومه فترة طويلة حتى أعلمه الله سبحانه بقوله: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ}[هود:٣٦] وانتهى الأمر، ليس هناك أحد سيدخل في دينك إلا هؤلاء القلة فقط، فلما وجد نوح أنه لن يدخل في الدين إلا من قد آمن دعا على قومه وقال:{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}[نوح:٢٦ - ٢٧] فقد عهد نوح من هؤلاء القوم ما كانوا يصنعونه من كفر وتكذيب هم وآباؤهم وأجدادهم طوال عمره، فقد مات الأجداد وجاء الأبناء وجاء الأحفاد بعد ذلك، والكل على الكفر والتكذيب، فنوح لا يرى إلا إنساناً يموت كافراً ويولد غيره كافراً ويموت كافراً وهكذا، فقال:{إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}[نوح:٢٧] فدعا ربه سبحانه، فاستجاب الله عز وجل دعاءه، قال تعالى:{فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}[القمر:١١ - ١٤] هذا الذي فعلناه {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ}[القمر:١٤] قد كفروا بالله سبحانه، وكفروا دعوة نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فاستجبنا لنوح بتكذيب هؤلاء له، وباستغاثته بنا.
قال سبحانه:{وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}[الصافات:٧٦] مع أن من أهل نوح ابنه وقد أغرقه الله سبحانه وتعالى، ولما سأل نوح ربه سبحانه:{فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ}[هود:٤٥] أي: لقد وعدتني أن تنجيني أنا وأهلي، فوعدك الحق وهذا ابني من أهلي، فقال تعالى:{قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}[هود:٤٦] أي: هذا لا ينتمي إليك، أهلك المؤمنون، وأولياؤك الصالحون، هذا كافر بالله سبحانه فلا يستحق أن يكون من أهلك، قال تعالى:{إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}[هود:٤٦] إذاً: قوله سبحانه: {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ}[الصافات:٧٦] أي: أهل دينه من المؤمنين الذين آمنوا معه، وكان عددهم ثمانين رجلاً وامرأة، أسلموا وعاشوا مع نوح ثم بعد ذلك ركبوا معه السفينة، وأنجى الله عز وجل من فيها، وجعل من ذرية نوح الخلق كلهم بعده عليه الصلاة والسلام.
إذاً:{فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}[الأنبياء:٧٦] الكرب العظيم هو: ما حدث، وأي كرب أفضع وأعظم من ذلك أن يجد السماء تنفتح بسيول تنزل على الأرض، والأرض تنفجر بعيون تطفو على الأرض، وهو في السفينة ومعه هذا العدد القليل من خلق الله سبحانه، وحمل فيها من كل زوجين اثنين بأمر الله سبحانه وتعالى من المخلوقات التي تستحق أن تحيا، وتستحق أن تكون معه دون البشر الذين كفروا بالله وكذبوا بالله سبحانه وتعالى، فقد ركبوا سفينة صنعها نوح بأمر الله سبحانه، واتسعت لهذا العدد العظيم من خلق الله، قال تعالى:{قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}[هود:٤٠] إذاً: عدد من فيها من خلق الله من غير البشر أكثر بكثير من هؤلاء البشر، فما آمن معه من البشر إلا قليل، لكن الأكثرية من غيرهم، قال تعالى:{مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}[هود:٤٠] وما آمن مع نوح إلا العدد القليل كما ذكر.
قوله تعالى:{وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}[الصافات:٧٦] أي: من الغرق ومن هذا الجو البشع ومن هذه العقوبة الصعبة الأليمة التي نزلت وأخذت هؤلاء الكفار، ونجينا نوحاً على نبينا وعليه الصلاة والسلام وأهله من الكرب العظيم، والكرب: الشيء الذي يغم الإنسان ويحزنه ويجعل الإنسان في ضيق شديد، فقد نجى الله عز وجل نوحاً ومن منعه من الكرب العظيم.