[من آداب الاستئذان]
{وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:٢٧]، والتسليم أنك تستأذن على أهل البيت ثلاث مرات وتسلم فتقول: السلام عليكم أأدخل؟ السلام عليكم أأدخل؟ السلام عليكم أأدخل؟ فإذا أذنوا دخلت، وإذا لم يأذنوا لم يجوز لك أن تفتح الباب وتدخل، قال تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:٢٧].
وذكرنا قبل ذلك حديث أبي موسى الأشعري مع عمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما، فقد أرسل عمر إليه فذهب أبو موسى واستأذن ثلاثاً، ولم يأذن عمر رضي الله عنه؛ لأنه كان مشغولاً، فبعد الثالثة انصرف أبو موسى الأشعري، فقال عمر بن الخطاب: ألم أسمع صوت الأشعري؟ فقالوا: بلى، فقال: علي به، ائتوا به، فأتوا بـ أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فسأله عمر رضي الله عنه: ما منعك أن تأتينا؟ فقال: أتيت فسلمت ثلاث مرات فلم ترد علي فرجعت، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع) فأراد عمر رضي الله تعالى عنه أن يستيقن من ذلك فأمره بأن يأتي بمن يشهد له بذلك، فجاء أبو سعيد الخدري وأبي بن كعب وشهدا له بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك.
فعلى ذلك إذا استأذن الإنسان على أهل بيت فليستأذن ثلاث مرات وهذا أقصى ما فيه، وليس له أن يزعج أهل البيت بأكثر من ذلك، فإذا أرادوا أن يردوا عليه ردوا، وإذا لم يردوا عليه رجع وانصرف إلا أن يستيقن أنهم لم يسمعوا استئذانه فله أن يستأذن أكثر من ثلاث مرات، ولكن إذا سمعوا ولا يريدون مقابلتك فارجع، والله عز وجل يقول: {وإَذْا قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور:٢٨].
فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً من بني عامر استأذن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في البيت فقال الرجل: أألج؟) يعني: أأدخل، وهذا ليس من أدب الاستئذان؛ فالأدب أن يبدأ بالسلام.
وجاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من بدأكم بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه)، ولأن ذلك {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:٢٨] كما قال الله عز وجل.
يقول العلماء: إنما خص الاستئذان بثلاث؛ لأن الغالب من الكلام أنه إذا كرر ثلاثاً سمع وفهم؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً، أي: إذا تكلم بكلمة وأراد أن يحفظوا هذه الكلمة أعادها ثلاثاً حتى يحفظوها، فالعادة أنه إذا تكرر الشيء ثلاث مرات فإنه يكفي فهماً وعرفاً، فالذي يستأذن ثلاث مرات يعرف أنه يستأذن فإما أن يسمح له بالدخول وإما ألا يسمح له.
وأيضاً جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (كان إذا سلم على قوم سلم ثلاثاً)، وهنا لعل القوم عدد كبير فيريد أن يسمع الجميع فيسلم ثلاثاً، فلعله يظن أنهم مشغولون فلا يسمعون في المرة الأولى، فيسلم الثانية ويسلم الثالثة صلوات الله وسلامه عليه؛ ليسمع الجميع.
يقول أهل العلم: فإذا لم يؤذن له بعد الثالثة فقد ظهر أن رب المنزل لا يريد الإذن، فإذا ما أذن بعد ثلاث مرات - سواء كان الاستئذان بالتسليم، أو بالطرق على الباب، أو برن جرس الباب - فأهل البيت لا يريدون دخول هذا الضيف.
قالوا: أو لعله يمنعه من الجواب عذر، فربما أن صاحب المنزل في دورة المياه فيتأذى من كثر طرق الباب.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ذهب إلى أحد الصحابة وهو عتبان بن مالك رضي الله عنه فأتاه صلى الله عليه وسلم واستأذنه، فخرج الرجل مستعجلاً، في رواية (أنه خرج يجر إزاره)، كأن الرجل كان يغتسل أو كأنه كان قد أتى أهله، فلما سمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم لبس ثيابه وأسرع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعلنا أعجلناك)، وهذا من أدب النبي الكريم عليه الصلاة والسلام.
ولم يرد هنا أنه استأذن أكثر من ثلاث، أو أنه أمر الرجل بالخروج حالاً، ولكنه استأذن صلى الله عليه وسلم فسمع الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فخرج متعجلاً.
وجاء عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه أتى سعد بن عبادة الأنصاري رضي الله عنه فاستأذن فسلم صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات يسمعه سعد بن عبادة ولا يجيب إلا في سره -يعني: يستكثر من تسليم النبي صلى الله عليه وسلم عليه- ولما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من الثالثة انصرف عليه الصلاة والسلام، فخرج سعد رضي الله عنه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم ورد عليه السلام جهراً، وقال: إنما أردت أن أستكثر من تسليمك -يعني: أحبينا أنك تكثر من السلام علينا؛ من أجل أن ينالنا بركة هذا السلام- ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم معه).
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ترك الناس العمل بالاستئذان.
وكأنه يقصد في زمنه رضي الله عنه أن الناس تركوا العمل به؛ لوجود الأبواب على البيوت، فأصبح الذي في الداخل لا يسمع صوت التسليم فيحتاج أن يطرق الباب، فكأن هذا معنى كلام ابن عباس.
فقال العلماء: وذلك لاتخاذ الناس الأبواب فيصعب على الإنسان في هذه الأزمنة أن يأتي على باب العمارة مثلاً ويقول: السلام عليكم أأدخل؟ وهذا لن يسمعه أحد، فعليه أن يرن جرس الباب.
وجاء عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: السلام عليكم السلام عليكم).
وهذا من الأدب، فأنت حين تطرق على الباب أو ترن الجرس ولا تقف بوجهك أمام باب الشقة؛ فلعل امرأة تفتح الباب فتنظر للداخل، أو لعل صاحب البيت يفتح فتنظر إلى داخل البيت، ولكن يجب أن تقف عن يمين أو عن شمال الباب بحيث يكون وجهك تلقاء الحائط وليس تلقاء الباب.
وقد كان عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك؛ بسبب أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور، فإن كان الباب مغلقاً فله أن يقف حيث شاء منه ويستأذن وإن شاء دق الباب؛ لما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حائط بالمدينة على قف في البئر، فمد رجليه في البئر، فدق الباب أبو بكر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني للحاجب-: ائذن له، وبشره بالجنة).
فكان النبي صلى الله عليه وسلم في حائط، أي: في بستان جالساً على بئرٍ، وكأن الجو كان حاراً فأراد أن يبرد رجليه بداخل البئر صلوات الله وسلامه عليه، والبستان له باب، فجاء أبو بكر رضي الله عنه فطرق الباب لأنه أتى من بعيد وطرق الباب حتى يسمع من بالداخل.
يقول الإمام القرطبي: صفة الدق أن يكون خفيفاً بحيث يُسمع، ولذلك ثبت في حديث عن أنس بن مالك قال: (كانت أبواب النبي صلى الله عليه وسلم تقرع بالأظافر) أي: أن الصحابة لما كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يطرقون الباب بأكفهم، ولكن يطرقون الباب بأظافرهم، وهذا من الأدب.
ويتحكم في مثل هذا الشيء اختلاف المكان، وبحسب سماع أهل البيت.