هذه السورة بدأها الله سبحانه بقوله:{حم}[الدخان:١]، وهذان الحرفان كما قدمنا قبل ذلك في السور الماضية: سورة غافر وفصلت والشورى والزخرف، كذلك في هذه السورة {حم}[الدخان:١] أن فيهما إشارة إلى إعجاز هذا القرآن العظيم، ولذلك عند ذكر الحروف المقطعة في أوائل السور يعقبها ما يشير إلى هذا القرآن، وكأنه سبحانه وتعالى يتحداهم {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}[البقرة:٢٣]، {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[هود:١٣]{وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:٢٣]، وتحداهم بالقرآن كله أن يأتوا بمثله ولن يقدروا، وهذا التحدي بلغ ذروته حينما أخبر سبحانه أن الإنس والجن لا يقدرون على ذلك فقال:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء:٨٨].
فلم يقبلوا هذا التحدي من ربهم سبحانه كما ذكر ذلك في سورة الإسراء، فتحداهم بعشر سور مثله مفتريات كما في سورة هود فلم يقدروا، ثم تحداهم بسورة من مثله كما في سورة يونس، وأخبرهم أن ((َادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ))، وفي البقرة {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ}[البقرة:٢٣] فلم يقدروا على ذلك، والذين أرادوا أن يقبلوا التحدي قالوا كلاماً فارغاً سخر منهم الناس بسببه، فقال أحد الذين أسلموا بعد ذلك لأحد هؤلاء الكذابين: والله إنك لتعلم إني لأعلم أنك كاذب، أي: أنت تعرف أني مكذبك فيما تقول، ولكنهم كانوا يتبعونه كنوع من العصبية على ما اعتادوه في الجاهلية.
{حم}[الدخان:١] هما حرفان: الحاء والميم، وقراءة أبي جعفر توضح أن هذين الحرفين ليسا كلمة، فيقرأ {حم}[الدخان:١] ويقف: حا، ميم، وكذلك في كل فواتح السور حين يقرأها يبين أنها حروف، كقوله تعالى:{الم}[البقرة:١] يقرؤها: ألف، لام، ميم، {طه}[طه:١]، طا، ها {يس}[يس:١]، يا، سين، فهذه حروف مقطعة يفتتح الله عز وجل بها هذه السور، ويتحدى الكفار بمثلها أن يجمعوا منها كلمات ويصيغوا منها قرآناً مثل هذا القرآن إن استطاعوا هم وشركاؤهم من الجن والإنس، فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً.
وقوله تعالى:{حم}[الدخان:١] فيها ثلاث قراءات: (حم) بالفتح، وهي قراءة قالون وأبي جعفر وابن كثير وحفص عن عاصم وهشام عن ابن عامر، والأزرق عن ورش يقرأ بالتقليل، ويقرأ أبو عمرو أيضاً بالفتح والتقليل للحاء أي: لا يفتحها ولا يكسرها، وباقي القراء وهم: ابن ذكوان عن ابن عامر وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف يقرؤونها بالإمالة، والكل يمد الميم مداً طويلاً ست حركات، وأما الحاء فتمد مداً طبيعياً بحركتين فقط.
قال الله تعالى:{حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ}[الدخان:١ - ٢]، وكأنه يقول: هذا القرآن من جنس هذين الحرفين وغيرها من الحروف، فأتوا بمثل هذا القرآن، والغالب أنه إذا ذكرت الحروف المقطعة فإنه يأتي بعدها إشارة إلى القرآن، كقوله تعالى هنا بعد أن افتتح السورة بهذين الحرفين:{وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ}[الدخان:٢]، والكتاب: هو القرآن، وهو الكتاب المعهود الذي عرفتموه وجاء من عند رب العالمين، المبين: من أبان بمعنى أظهر ووضح وجلى، فكأن المعنى: إن هذا الكتاب يوضح ويبين لكم ما كان غائباً عنكم وما لم تعرفوه، كما وضح لكم ربكم فيه ما أشكل وما اشتبه عليكم وما وقعتكم في شك فيه، وبين لكم ما تحتاجون إليه في أمر دينكم ودنياكم وأخراكم.