[القراءات في قوله تعالى: (وليبدلنهم)]
قال تعالى: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:٥٥] هذه قراءة الجمهور: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ} [النور:٥٥].
وقراءة ابن كثير، وشعبة عن عاصم ويعقوب: ((وليبدِلنهم من بعد خوفهم أمناً)).
فيبدل الخوف الذي في القلوب أمناً وأماناً، وهذا الوعد من الله عز وجل له شروط، قال سبحانه: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:٥٥]، إذاً: فالمؤمن يعبد الله سبحانه ولا يشرك به شيئاً، وكأنه يقول: أنتم أيها المؤمنون طالما تمسكتم بدين رب العالمين، وكنتم تعبدون الله ولا تشركون به شيئاً: لا شركاً أكبر يخرجكم من الملة، ولا شركاً أصغر، ولا شركاً خفياً، فلكم الاستخلاف والنصر.
والشرك الأكبر أن يعبد الإنسان وثناً أو حجراً، أو يطلب من غير الله ما لا يطلب إلا من الله سبحانه وتعالى، أو يتوكل على غير الله ولا يتوكل على الله سبحانه، فهذا من الشرك الذي يخرج صاحبه من الملة.
والشرك الأصغر كأن يقول: لولا السلاح الذي في يدي لما انتصرت، وينسى الله سبحانه وتعالى.
والشرك الخفي في قلب الإنسان كالرياء والسمعة، كأن يقول: نحن ذاهبون إلى القتال وسنعمل كذا، وكأنه هو الذي يفعل وينسى الله سبحانه وتعالى.
فإذا انتفى ذلك عن قلب الإنسان المؤمن وكان صادقاً مع الله، وأخلص لله كان الله معه ينصره سبحانه.
قال: {يَعْبُدُونَنِي} [النور:٥٥] أي: يتوجهون بالعبادة إلي وحدي، فالمؤمن حين يجد نفسه قد ضاقت به السبل وقد اعتاد أن يقول: يا رب، ففي وقت الضيق ينصره الله سبحانه وتعالى.
وأما إذا ضاق عليه الأمر وابتلي فدعا: يا سيدي فلان، يا وليي فلان، يا فلان، فيسأل غير الله سبحانه فقد أشرك بالله، وإن زعم أنه على الإسلام.
وكذلك إذا نسي الله، ونسي التوكل على الله سبحانه، وبدأ يتوكل على الخلق، فيتوكل على فلان أن يمده بسلاح، ويتوكل على فلان أنه ينصره ويكون معه في وقت الذل، وينسى الله سبحانه وتعالى، فهنا يتخلى عنه ربه.
فالتوكل على الله: أن تجعل الله وحده وكيلك الذي يقوم بأمرك، وهو الذي يدبر أمرك.
فالإنسان المؤمن توكله على الله، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدوا خماصاً، وتروح بطاناً).
فلو أن المؤمن يتوكل على الله حق التوكل ثقةً بالله سبحانه وتعالى، ويأخذ بالأسباب، فالله يكون معه، وينصره سبحانه وتعالى.
فهذا وعد من الله سبحانه، وقد جاء في حديث تميم الداري الذي رواه الإمام أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر) وكان تميم الداري رضي الله عنه يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافراً الذل والصغارة والجزية.
والحديث إسناده صحيح.
قال هنا: (ليبلغن هذا الأمر)، ليبلغن: فعل مضارع مسبوق باللام المؤكدة، ومنتهي بالنون المثقلة المؤكدة، فهو جواب لقسم، كأنه يقول: والله ليبلغن هذا الأمر، يعني: هذا الدين العظيم، سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، وهذا من جوامع كلمه صلوات الله وسلامه عليه، ومن محاسن التشبيه العظيم، فالإسلام يبلغ ما بلغ الليل والنهار، إذ الليل والنهار يدخلان كل البيوت، فكذلك هذا الدين العظيم لابد وأن يبلغ جميع بقاع الأرض يوماً من الأيام.
وهذا وعد من الله سبحانه وتعالى على لسان رسوله صلوات الله وسلامه عليه، كما يأتي الليل على الجميع، ويأتي النهار على الجميع فسيأتي هذا الدين على الجميع، قال: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر) المدر: الطوب، والوبر: الشعر.
فبيوت الخيام في الصحاري، وبيوت الطوب والأبنية في البلدان والقرى كلها سيدخلها هذا الدين يوماً من الأيام.
قال: (إلا أدخله الله هذا الدين) يدخله هذا الدين وإن أبى المشركون.
قال صلى الله عليه وسلم: (بعز عزيز، أو بذل ذليل) يعني: إنسان يعزه الله عز وجل بهذا الدين، أو إنسان آخر يرفض هذا الدين فيذله الله سبحانه وتعالى برفضه إياه، حتى يدخل هذا الدين كل البيوت.
قال: (عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر وأهله).
فهنا وعد من الله سبحانه وقد تحقق شيء من هذا الوعد، وجاء دين الله عز وجل ودخل الناس فيه أفواجاً، وانتشر في بقاع الأرض، ولكن بهذه الصورة التي في هذا الحديث سيكون يوماً من الأيام؛ فإن الله لا يخلف الميعاد، ولم يحدث أن الدين دخل جميع البيوت فأسلم جميع الناس، ولكن سيكون بهذا الوعد الذي في هذا الحديث يوماً من الأيام يعز الله عز وجل هذا الدين كما كان قبل ذلك وأكثر من ذلك، فيدخل الجميع فيه، وذلك حين ينزل المسيح صلوات الله وسلامه عليه، فيحكم الناس ليس بالتوراة ولا بالإنجيل، ولكن يحكمهم بهذا القرآن، ويكون إمام المسلمين من المسلمين، فيصلي بهم ويتأخر للمسيح عليه الصلاة والسلام حتى يتقدم، فيقول المسيح: لا إمامكم منكم.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المسيح عليه الصلاة والسلام ينزل فيضع الجزية -يعني: يمتنع من أخذها- فلا يقبل إلا الإسلام، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب)، فلا يكون في الدنيا إلا هذا الدين العظيم.
قال الله عز وجل:: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:٥٥] فهذا شرط، والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، فإذا كانت حياة المؤمن ظاهراً وباطناً، قولاً وعملاً، كلها فيما يحبه الله عز وجل، استحق أن ينصره الله وأن يمكن له.
قال: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ} [النور:٥٥] أي: بعدما ذاق حلاوة الإيمان، وعرف ربه سبحانه، قال: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:٥٥].
والفسق هنا: الفسق الأكبر بمعنى: الخروج من دين رب العالمين سبحانه، وأصله من فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرتها، فكذلك هؤلاء بعدما دخلوا في دين الله عز وجل لم ينالوا منه شيئاً كفروا بالله، ففسقوا فخرجوا عن دين الله، وخرجوا عن طاعته، فلا يضرون إلا أنفسهم، قال: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:٥٥] بمعنى: الفسق الأكبر، فالكفر منه أكبر مخرج لصاحبه من الملة، ومنه أصغر.
والظلم منه ظلم أكبر، ومنه ظلم أصغر.
والفسق منه فسق أكبر وفسق أصغر، فهنا الفسق المقصود به الكفر برب العالمين، والخروج من هذا الدين.
نسأل العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.